عند البحث في أقدم المصادر الّتي ذكرت الطّائفة الدّرزيّة في الشّرق الأوسط، لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار وجود مصادر تاريخيّة أخرى لم يتمّ الاطّلاع عليها بعد. إضافةً إلى ذلك، فإنّ العديد من الكتب التّاريخيّة القديمة لم تُرفع إلى الشّبكة الإلكترونيّة ولا تتوفّر في المكتبات العامّة. هذه الفرضيّة صحيحة في كلّ بحث تاريخيّ، ولكن من أجل تقديم صورة عامّة عن أوائل الإشارات إلى الدّروز، سيعرض هذا المقال المصادر التّاريخيّة بشكلٍ زمنيّ متسلسل، بدءًا من إغلاق أبواب الدّعوة حتّى القرن الرّابع عشر.
تأسّست العقيدة الدّرزيّة في القاهرة خلال النّصف الأوّل من القرن الحادي عشر، في عهد الخليفة الفاطميّ السّادس، الحاكم بأمر الله. بدأت الدّعوة إلى الدّين الجديد عام 1017م، وكانت تهدف إلى التّبشير العالميّ. أُرسِل الدُّعاة إلى مناطق مختلفة، وانضمّ العديد من الأشخاص إلى الدّين الجديد. ومع ذلك، بعد اختفاء الحاكم بأمر الله عام 1021م، عاد كثير من المعتنقين الجدد إلى دياناتهم السّابقة (Abu Izzeddin 2024:1). استمرّ نشر العقيدة الدّرزيّة على يد دعاةٍ مختلفين، وكان آخرهم بهاء الدّين، الّذي أعلن إغلاق الدّعوة عام 1043م (أسعد 2014:10؛ فيرو 1987:112).
تشير الدّراسات المكتوبة باللّغة العبريّة، الأكاديميّة منها وغير الأكاديميّة، إلى أنّ أوّل من ذكر الطّائفة الدّرزيّة هو الرّحّالة اليهوديّ بنيامين التّطيلي في القرن الثّاني عشر. ومع ذلك، في أطروحة الماجستير لكاتب هذا المقال، الّتي نُشرت عام 2019 وتناولت بدايات الاستيطان الدّرزي في جبال الكرمل، تبيَّن أنّ أول من ذكر الدّروز كان المؤرِّخ يحيى بن سعيد الأنطاكي (يحيى بن سعيد بن يحيى الأنطاكي) عام 1067م، أي بعد 24 عامًا فقط من إغلاق أبواب الدّعوة (أسعد 2019:21)
في كتابه “تاريخ الأنطاكي المعروف بصلة تاريخ أوتيخا”، الّذي يُعتبر من أهمّ المصادر التّاريخيّة في التّراث العربيّ، يوثّق الأنطاكي فترات مهمّة في تاريخ العالم الإسلاميّ والإمبراطوريّة البيزنطيّة (الأنطاكي 1067). يذكر الأنطاكي أوائل دعاة العقيدة الدّرزيّة عام 408 هـ، ومنهم محمد بن إسماعيل، المعروف بالدَّرزي (محمد بن إسماعيل ويلقّب بالدَّرزي)، الّذي بدأ بنشرعقيدة خاصّة به، فأمر الحاكم بأمر الله بقتله. بعده، جاء إلى القاهرة الدّاعية حمزة بن أحمد، المعروف بالهادي (حمزة بن أحمد ولقب بالهادي)، الّذي انضمّ إليه العديد من الأتباع، خصوصًا في منطقة وادي التّيم، صيدا، بيروت، وسواحل بلاد الشّام. كما يحتوي كتاب الأنطاكي على وصفٍ إضافيّ لفترة حكم الحاكم بأمر الله حتّى اختفائه عام 1021م، ويقدِّم معلومات عن العقيدة الدُّرزية في بداياتها (الأنطاكي 1067: 343).
مصادر القرنيْن الثّاني عشر والثّالث عشر بنيامين التطيلي (Benjamin of Tudela)
أما بنيامين التّطيلي، الّذي تعود رحلاته إلى القرن الثّاني عشر، فقد وصف الدُّروز بأنّهم جماعة تسكن الجبال الواقعة شرق صيدا (على بعد 16.1 كيلومتر). ووفقًا لروايته، عاش الدّروز في المناطق الجبليّة الوعرة وعلى منحدرات الجبال، ولم يكن لهم مَلك أو حاكم، بل كانوا مستقلّين في هذه المرتفعات، وتمتدّ حدود مستوطناتهم حتّى جبل حرمون. كما ذُكر أنّهم يحتفلون بعيد واحد سنويًّا، ويؤمنون بالتنّاسخ، وكان لديهم علاقات تجاريّة مع اليهود، إلى جانب عداوات مع سكّان صيدا. وأشار أيضًا إلى أنّهم يجوبون الجبال والتلال، ولا يستطيع أحد أن يخوض معهم معركة. (Tudela 1987: 78).
من المهمّ الإشارة هنا إلى نقطة جوهريّة تتعلّق بشهادة بنيامين التطيلي. فبعض أوصافه احتوت على معلومات غير دقيقة أو لا تعكس الحقيقة بشأن الدّروز وعقيدتهم، ويعود السّبب في ذلك، كما أشار إليه سميح ناطور، إلى أن بنيامين التّطيلي لم يلتقِ بالدُّروز شخصيًّا ولم يصعد إلى الجبال للتعرُّف عليهم عن قرب. بل استقى معلوماته من سكّان صيدا، الّذين، وفق ما ورد، كانوا في حالة نزاع مع الدُّروز. وبناءً على ذلك، من المعقول الافتراض بأن شهادته قد تكون متأثرِّة بالعداوة بين الطرفيْن، ممّا قد يفسِّر بعض المعلومات غير الدّقيقة الّتي نقلها عنهم.
شمس الدّين الدّمشقي
مصدرٌ آخر يعود إلى عام 1300م هو الجغرافيّ شمس الدّين محمد بن أبي طالب الدِّمشقي، الّذي ألّف كتبًا تناولت مواضيع متنوعّة، من الفقه إلى الطّهي. في أحد مؤلّفاته، الّذي يقدّم معلومات موسّعة عن بلاد الشّام في عصره، يذكر جبل بقيعة وقرية البقيعة، حيث تتوفّر المياه الجارية وتشتهر بزراعة السّفرجل. كما يشير إلى وجود العديد من القرى الأخرى الغنية بأشجار الزّيتون والفواكه، دون أن يذكر أسماءها. بالإضافة إلى ذلك، يتحدّث عن جبل الزّابود وقرية الزّابود، مشيرًا إلى وجود قرى أخرى عديدة في المنطقة، ويذكر أنّ سكّان هذه الجبال هم من الدّروز، وكان لهم نفوذ وحكم في تلك المناطق (الدمشقي 1988: 279).
القرن الرّابع عشر: محمد بن عبد الرّحمن العثمانيّ
كما أنّ هناك إشارة أخرى إلى الدُّروز في القرن الرّابع عشر، في كتابات محمد بن عبد الرّحمن الحسينيّ العثمانيّ، الّذي شغل منصب القاضي الأكبر في صفد. في مؤلّفاته، يصف منطقة جبل البقيعة الّتي تابعة لمدينة صفد، ويشير إلى أنّ معظم سكّان هذه المنطقة كانوا دروزًا (العثماني 1378; تال 2014: 187).
التّوزيع الجغرافيّ للدُّروز وفق المصادر التّاريخيّة

تُظهر الخريطة الأماكن الّتي عاش فيها الدّروز من القرن الحادي عشر إلى القرن الرّابع عشر.
وبناءً على المصادر الّتي عرضناها في المقال، نرى أن الدُّروز كانوا موجودين في القاهرة، ومنطقة وادي التيم، وصيدا، وبيروت، وسواحل بلاد الشّام. وهنا يجب أن نطرح تساؤلاً مهمًّا: ألا يفترض وجود مصادر إضافيّة تذكر الدُّروز في مناطق أخرى؟ ولعلّ السّبب في ذلك هو ما ذكرناه في بداية المقال من احتمال وجود مصادر إضافيّة لم يتمّ نشرها أو اكتشافها بعد. وإذا لم يكن هناك مناطق أخرى يتواجد فيها الدروز، فلماذا اقتصر انتشار الدّيانة الدّرزية على في منطقة الجليل والجزء الجنوبيّ من لبنان؟
يتناول هذا المقال أوائل الإشارات إلى الطّائفة الدّرزيّة في المصادر التّاريخيّة، بدءًا من إغلاق أبواب الدّعوة عام 1043م وحتّى القرن الرّابع عشر. يسلّط البحث الضّوء على أقدم ذكرٍ موثّقٍ للدّروز، حيث يبيّن أنّ أوّل مَن ذكرهم لم يكن الرّحالة اليهوديّ بنيامين التّطيلي في القرن الثّاني عشر، كما هو شائع، بل المؤرّخ يحيى بن سعيد الأنطاكي عام 1067م، بعد 24 عامًا فقط من إغلاق الدّعوة.
يستعرض المقال المصادر التّاريخيّة الّتي وثّقت الدّروز، مثل كتابات الأنطاكي، الّذي أشار إلى الدّعاة الأوائل وانتشار العقيدة الدّرزية في بلاد الشّام. كما يتناول وصف بنيامين التّطيلي للدّروز الّذين عاشوا في المناطق الجبليّة شرق صيدا، وعلاقاتهم التّجارية مع اليهود. إضافةً إلى ذلك، يُبرز المقال إشارات أخرى من القرنيْن الثّالث عشر والرّابع عشر، مثل كتابات شمس الدّين الدّمشقي ومحمد بن عبد الرّحمن العثمانيّ، اللّذيْن ذكرا استيطان الدّروز في منطقة صفد وسيطرتهم على بعض المرتفعات في شمال فلسطين ولبنان.
يعتمد هذا البحث على مصادر تاريخيّة متنوّعة، ويسهم في تصحيح بعض المفاهيم السّائدة حول التّوثيق الأوّل للطّائفة الدّرزيّة في الشّرق الأوسط.
المراجع:
كتب باللغة العربية:
الأنطاكي، يحيى بن سعيد. (1067م). تاريخ الأنطاكي المعروف بصِلة تاريخ أوتيخا. حقّقه وصنع فهارسه استاذ دكتور، عمرعبد السّلام تدمري، جروس برس، طرابلس لبنان 1990.
العثمانيّ، محمد بن عبد الرّحمن. (1378هـ). تاريخ صفد، تحقيق سهيل زكّار. دمشق: دار التّكوين، 2009.
الدّمشقيّ، شمس الدّين محمد بن أبي طالب. (1256 أو 1257-1327). كتاب نخبة الّدهر في عجائب البَرّ والبحر. بيروت: دار إحياء الترّاث العربي 1988.
كتب باللغة العبرية
أسعد، إيهاب. (2019). استيطان الدّروز في دالية الكرمل على ضوء اللقى الأثرية والشّهادات التّاريخيّة. ماجستير (م.أ) – جامعة حيفا، قسم الآثار.
فرو، قيس. (1987). الدّروز في الجولان. أريئيل، العدد 50-51، الصفحات 112-116.
تال، أوري. 2014. فلسطين في المصادر العربيّة في العصور الوسطى (634-1517): مجموعة ترجمات. معهد ياد يتسحاق بن تسفي، القدس.
كتب باللّغة الإنجليزيّة:
Benjamin. (1987). The Itinerary of Benjamin of Tudela: Travels in the Middle Ages. J. Simon, Malibu, Calif.
Abu Izzeddin, N. M. (2024). Druzes: A New Study of Their History, Faith, and Society. BRILL Academic Publishers.