اجتمعت جميع المذاهب والمعتقدات الدّينيّة والفلسفيّة على أنّ النّفس هي جوهر روحانيّ. إلّا أنّ هناك مَن وصف النّفس بأنّها عاقلة بجوهرها ووصف الجسد الإنسانيّ بالعرَض وبالشّكل المرئيّ، مبيّناً مفارقة بين الاثنيْن لكون النّفس جوهرًا باقيًا خالدًا قائمًا بحدّ ذاته دون زوال. وفي هذا السّياق يعتقد أرسطو وكأنّ الجسد عضوًا من أعضاء النّفس. ويرى أفلاطون بأنّ الجوهر أكثر أهمّية من الجسد، وينفي بعض المذاهب احتمال وجود النّفس من غير جسد، حيث لا وجود للطّيف من دون كثيف خلافًا لمفارقة النّفس للجسد كونها جوهر قائم بحدّ ذاته كما ورد لدى أفلاطون، أرسطو، أفلوطين، ديكارت، سبينوزا وابن سينا.
أرسطو جعل النّفس والجسد جزئيْن لجوهر واحد، النّفس بنظره متّحدة مع الجسد اتّحاد الصّورة مع الهيولى لا مكان محدّد لها في الجسد. أمّا فيثاغورس وأفلاطون فقد فرّقا بين النّفس والجسد على أن الجسد مقرّ حجز للنّفس المأسورة به وهي تتراوح ما بين النّفس العاقلة والنّفس البهيميّة. وأفلوطين فرّق بين النّفس والجسد وآمن بالمفارقة وبوجود النّفس بغير جسد في مرحلة ما.
السُّؤال في هذا الطّرح يدور حول مركزيّة النّفس وعلاقتها بالجسد وفيما يحلّ في الجسد؟ إلى أيّ مدى تؤثّر النّفس على الجسد؟ لماذا يتألّم الإنسان في عضو ما من دون الآخر في حين أنّ هناك العديد من الازدواجيّة في الأعضاء في جسد الإنسان؟
في سياق التّرابط بين البُعد الجسديّ والبُعد الرّوحانيّ النّفسيّ نرى أنّ الطّبّ يأخذ بالبعد الفيزيقيّ الجسديّ لأمراض مثل ضغط الدّم الفائض، سدّ الشّرايين، تفاقم الكولسترول ويسعى إلى الحلول البيولوجيّة – كيميائيّة من دون غيرها، من دون البحث في أبعاد مصدرها النّفس البشريّة بتوافق مع مبدأ الحركة المنبثقة عن المُحرِّك والآخذ بالأسباب. أمّا الطّبّ الطّبيعيّ فيفيدنا ببعد إضافيّ في نفس الإنسان وبأنّ وراء كلّ سدّ لشريان في جسد الإنسان هناك أزمة لفراق ما من عزيز لم يحتويه أو لم يواجهه حسِّيًّا، أو قد تغاضى عنه، وبالتّالي قد حمل معه عبئًا دون شعور آنيّ به، تراكم وتراكم إلى أن خرجت بشكل صدمة حسِّيّة نتيجةً لدحضها، تنافرها وعدم انسجامها. وخروجها يكون إلى حيِّز المواجهة والتّصادم بين ما يدور في النّفس وما يدور في الجسد فتخرج بشكل أزمة جسديّة. فللظّروف البيئيّة والنّفسيّة تأثير على الأعضاء الجسديّة الأكثر ضعفًا فحين لا يتقبّل عضوٌ في الجسد الكم من الطّاقة الّتي تحتاجها، يفقد من حيويّته، تتقلّص خلاياه وتتجمّع الدّهون داخله فتتكوِّن طبقات من التّصلّب في الشّرايين على سبيل المثال. الخلاصة بأن ّالطّاقة الجسديّة تتوافق مع الطّاقة النّفسيّة وتتناغم معها.
فها نرى نفسيّة عدم القبول والرّضاء بما قسم الباري تؤثرِّ على حالته الصّحّيّة، وهناك من يعتقد بأنّ الخوف من نقد وانتقاد الآخرين للفرد أو نقده للآخرين على أخطائهم الفعليّة أو الوهميّة، كلّها أشكال من حالات نفسيّة، فكريّة لا ترضَ بالموجود ولها تأثير مباشر على الجسد، سيما على آلام في الأمعاء الغليظة. مثال آخر هو الأمعاء الدّقيقة الّتي تقوم بعمليّة تمييز واختيار المواد الّتي تمتصّها وتبعث بها إلى أنحاء الجسد، هي الأخرى تتأثّر بنهج السُّلوك المتردّد لدى الإنسان صاحب الطّابع المتردّد فالتّردُّد هذا يؤثّر على عملها فتسبِّب بألمه. أضيف بأنّ الطّبّ يشير إلى أنّ الكبد يخزن الزُّلال والدُّهون والأملاح وبقيّة المواد الّتي يحتاجها الجسد، وهناك من يعتقد بأنّه يتأثّر بمدى شعوره بالمحبّة من قِبل والديْه حين كان صغيراً والشّعور بالنّقص بمحبّة الوالديْن صدقًا أم توهّمًا، يؤدّي إلى خلل ما في تنفيذ وظائفه وإلى ألم بالكبد.
هنا نرى بأنّ الإنسان هيئة روحانيّة نفسيّة نورانيّة تُمِدُّ الإنسان بالنّور، تُعطي ولا تأخذ لذاتها وفي عطائها لذّة السّعادة، والسّعادة ليست إحساس إنّما إدراك معرفيّ فيها الرّاحة والسّكينة النّفسيّة، خلافًا للحبّ وللمحبّة الّتي هي حاجة بهيميّة أتت لتأخذ لا لتُعطي في حركة فعَّالة وفي إحساس. والهيئة النّورانيّة تستعمل الجسد كأداة لها للتّواجد الرّوحانيّ في هذا العالم الّذي أتى كي يتهذّب ويتطوّر إلى الأفضل، فيتقرّب من العالم الأسمى. والتّواجد في العالم الجسمانيّ به زمان ومكان وبه إحداثيّات وتغييرات الّتي لا تتمّ من دون الزّمان والمكان الّذي يتمثّل بهذا العالم الماديّ. والإنسان يصل إلى هذا العالم بشيفرة إنسانيّة سلوكيّة معيّنة، بشحنة ما قد حملها من حيوات سابقة له. ويحمل معها غاية. الغاية قد تؤدّي إلى سعادته أو لمعاناته. فحين يواجه الإنسان معاناة معيّنة، هي ذاتها تشكّل مؤشّرًا إلى أنّه بوضع يحتاج إلى تصحيح ما من أزمة ما أو من وضعيّة ما، لم يسلِّم بها ولم يتقبّلها في حياة ما سابقة. والمعاناة تعود على نفسها وتتكرّر بشكل أو بآخر إلى حين إحداث التّصحيح الذّاتيّ في نفسه. فالنّفس تحمل معها مخزون من الخبرة والمعلومات الّتي جمعتها عبر الحيوات الّتي مرّت بها وهي بحاجة إلى موازنة وانسجام مع الجسد ولها سعي نحو الطّاقة الإيجابيّة السّاميّة.
ويفيد بعض الفلاسفة اليونانيّة بأنّ الإنسان يتحلّى بنوعيْن من الأنفس، النّفس الرّوحانيّة والنّفس البهيميّة، نفسان تتناغمان مع بعضهما البعض بمبدأ الشّبيه، يجذب الشّبيه. النّفس البهيميّة تحبّ ذاتها، تفتّش عن ملذّاتها وفي مركز اهتماماتها أن تأخذ من الغير لذاتها، وحين لا تتقبّل ولا تُسلِّم بحدث ما أو مصيبة واجهتها، تحدث أزمة والأزمة تجلب معها معاناة، إلّا أنّ في المعاناة تكمن إمكانيّة استخلاص الدّرس والعبرة وفي حين تقبلها يحدث التّصليح الذّاتيّ وتتلاشى المعاناة.
يَرِدُ من المختصّين بالتّنويم المغناطيسيّ عن لحظات الموت وفق ما سَرَدَ لهم المُنَوَّمون بأنّ الموت بمثابة مرور بخندق يشعّ بالنّور وبه ما يشبه مجموعة شبيهة بظلال إنسانيّة، أحد أفرادها يمرّر للنّفس المارّة فحوى رسالة للحياة الجديدة ويصف المُنَوَّمون لحظات المرور هذه بأنّها أجمل ما في الحياة وأبهرها.
أمّا البُعد السّلوكيّ لحياة الإنسان فتمرّ في عدد من المراحل الزّمنيّة تُقدّر كلّ مرحلة بسبع سنوات، كلّ مرحلة لها ميزات خاصّة بها: سنوات أولى تتميزّ بالجانب الحّسّي، الماديّ، حبّ التّملُّك، تملّك للمنطقة والمساحة. ثمّ سنوات التّعرّف على الجندريّة الخاصّة به. بعدها سنوات الجانب الاجتماعّي والرّغبة بالمصادقة والتّودُّد، في بعض الأحيان قد يرون بهذه المرحلة أنّ الأهل بنظرهم يشكّلون عائقًا أمامهم. بعدها سنوات التّقرّب من العائلة والبحث عن المحبّة معهم ولديهم. يليها سنوات الرّغبة بالتّطوّر والانفتاح الّذاتيّ بما في ذلك كسب المهارات والمهنة. ثمّ سنوات البحث عن بُعد روحانيّ وبالبحث عن مفاهيم الأمور والأحداث بمفاهيم روحانيّة قِيَّمية. ثمّ سنوات الخوض في عالم الماهيّات والتّساؤلات بعمقها وأبعادها، في الخلق والخالق. من بعدها يعود الإنسان إلى الجانب المعطائي حيث يقدِّم ويتبرّع للآخرين. أمّا في السّنوات الّتي بعدها فيتعدّى مرحلة “الأنا” إلى “الآخر” فيها يسعى لإحداث لذّة ومتعة بأشكال متعدّدة لدى الآخرين…
وللحياة البشريّة أربعة فصول مرحليّة كفصول السّنة، ترافقه في كلّ مدار وحال بحياته: التّحفيز، الاتّساع، التّقلُّص والارتخاء. مرحلة التّحفير قد تكون طاقيّة، كيميائيّة أو كهربائيّة، التّحفيز يؤدّي إلى الاتّساع، توسع الشّرايين، السُّمنة، الازدياد في الوزن، تكبير البيت، بعدها التّقلّص والاكتفاء بالأقلّ، في البيت الصغير مثلًا ثمّ التّراخي، وكثرة النّوم، تراخي في الجسم، تجعُّد في الجلد، ثمّ الموت، خلافًا للرّوح السّرمديّة الأبديّة.
الخلاصة أن الإنسان مركّب من ثلاثة عناصر مصادرها روحانيّة روح ونفس وجسد، وجوده في هذا العالم له غاية أسمى هي التّطور والارتقاء في حيِّز الزّمان والمكان اللّذان بهما ومن خلالهما يمكن إحداث الارتقاء الّذي هو نوع من أنواع التّغيرات القابلة في هذا الحيِّز. التّطوّر والارتقاء يتمّ من خلال المرور في ظروف حياتية ومؤشّرات يُمتحن بها الإنسان ويعيد الامتحان مرّة تلو الأخرى طالما لم ينجح به ولم يسلِّم ويقبل بما قُسِم له وما قد حلّ به وعليه، إلى أن يستخلص الدّرس والعِبر من الامتحان أو الامتحانات الّتي يمرّ بها، حينها يحدث التّصليح والارتقاء. فما يمرّ به الإنسان ليس من باب الصّدفة على الإطلاق والعلاقة بين النّفس والجسد مباشرة تلقائيّة، مثلما المرض الّذي يشكّل مؤشِّرًا وإنذاراً لتواجد ازمة نفسيّة لم تُحلّ بعد. من هنا أهميّة معرفة الأزمة والعِبرة الّتي من ورائها. حيث أنّ المحبّة هي المسلك المُبْتَغى إلى السّعادة الأبديّة وهي المؤشِّر لاتّخاذ مسار الهدف الصّحيح والصّراط المستقيم، ثمّ إلى النّور الهدف الأسمى فمن النّور جاءت النّفس الإنسانيّة وإلى النّور تعود. v