في تاريخ 14-15/03/2025 زار قرية جولس ومقام سيّدنا النّبي شعيب عليه السلام مجموعة مشايخ أفاضل من سوريا (إقليم البلان). اثناء زيارتهم، قام شبان (متديّنين وغير متديّنين) بأطلاق النّار بشكل عشوائيّ ومكثّف ممّا زاد من الضّجيج والإزعاج لبعض المشاركين في هذا الحدث التّاريخيّ. فإطلاق النّار في المناسبات السّعيدة عادة سائدة منذ بداية استعمال البارود كسلاح، خاصةً عند العرب.
فلماذا نطلق العيارات النّارية أثناء المناسبات؟
أوّل إشارة مؤكّدة لما يمكن اعتباره بارودًا حدثت في القرن التّاسع الميلاديّ في الصّين خلال عهد أسرة تانغ عام 808م. ويُعدّ البارود أحد الاختراعات الأربعة العظيمة للصّين. تمّ تطويره في الأصل للأغراض الطّبّيّة، وقد استُخدم لأوّل مرّة للحرب حوالي عام 904 ميلاديّ. انتشر عبر أسيا وأوروبا بنهاية القرن الثّالث عشر بواسطة البريطانيّين. بينما الفرد نوبل أخترع مواد متفجِّرة (أقوى من البارود) عام 1867 تُدعى الدّيناميت ومنها طُوِّرت وسائل القتال العسكريّة.
لأجل استعمال البارود طُوِّر السّلاح النّاريّ، وهو كلّ آلة معدّة لرمي المقذوفات بالقوّة الضّاغطة الناّتجة عن اشتعال مواد متفجِّرة مكوَّنة من البارود. يرجع تاريخ استخدام الأسلحة النّاريّة إلى القرون الوسطى حيث تطوّرت أوائل المدافع ومنها تطوّرت الأسلحة الفرديّة في أوروبا أثناء العصور الوسطى.
وهكذا أخذت البندقيّة تحلّ مكان السّيوف والرّماح والسّهام. إطلاق النّار عن بعد أبطل المواجهة المحتومة بين المتبارزين بالسّيوف أثناء المعركة وزاد ضجيجها رعبًا في قلوب من يحمل السّيف. فإصابة الهدف عن بُعد منحت حامل البندقيّة السّيطرة التّامة في أرض المعركة ورجّحت الكفّ لصالحه. ولكي يعلن المحارب وجوده في أرض المعركة، كان يطلق الناّر بدلًا من أن تُقرع الطّبول كما كان زمن قبل اختراع البندقيّة.
هذا السّلاح يتواجد بكثرة بين القبائل العربيّة الّتي تعتمد كليًّا على ذاتها بالدّفاع عن أفرادها. ولعلّ المثال الأوضح لذلك هو الوضع في بلاد العراق: فهنالك منافسة بين سيادة سلطة القانون والحكم القبليّ خاصّةً بعد ضعف الحكم القائم هناك. فهذه الفوضى أدّت الى انتشار السّلاح بأيدي أفراد الّشعب واستعماله أثناء الحرب وأثناء السِّلم. والقبيلة الّتي تحمل السّلاح الأقوى والأكثر هي القبيلة الأقوى، ومن يحدث ضجيجًا أعلى واجب على العدو أن يحذر.
مع مرور الوقت وانتشار السّلاح، أصبحت البندقيّة إحدى الأدوات الأساسيّة في الحياة الرّيفيّة، حيث كانت تُستخدم كأداة للدّفاع عن النّفس وعن الممتلكات في غياب الأمن، وكأداة صيد لجمع الطّعام لدعم الأسرة. ضعف تطبيق القانون من قِبَل حكومة مركزية قويّة، ضعف وقلّة وسائل النّقل الحديثة وفي الوقت ذاته سهولة الوصول إلى القرى بواسطة الخيول، أدّى إلى تدنّي الشّعور بالأمن، ممّا أجبر القرويين على تبنّي عادات دفاعيّة ذاتيّه في أغلب الأحيان. وهكذا أصبحت البندقيّة جزءًا لا يتجزّأ من حياة القرويّين، إذ وفّرت لهم شعورًا بالحماية والثّقة بالنفس، واستُخدمت أيضًا للصّيد، نظرًا لكون هذا المجتمع يعتمد على الزّراعة وعلى الصّيد.
عندما كان يتمّ عقد حفل زفاف (الحدّاي) في قرية معيّنة، كان الرّجال وأبناء القرية عادة يتجمّعون في وسط ساحة القرية أو في مكان واسع، يشكِّلون دائرة كبيرة، يغنّون ويصفِّقون بشكل إيقاعيّ على صوت المغنّي الشّعبيّ الّذي يقف في الوسط بين جمهور المحتفلين ويغنّي باللّغة العربيّة الثائرة: خيل وخيال وبارود… (خيول، فرسان، وأسلحة)، وهو ما ينعكس في الواقع كالفارس يمتطي ظهر الحصان ويحمل البندقيّة في يده، ما يرمز إلى الحماية والأمان والرّجولة. أضافة الى ذلك يحتاج الرّجال اليوم إلى شارب ومسدس لإظهار مظهرهم الرّجوليّ. الرّجل الّذي لا يملك سلاحًا ولا بندقيّة لا يُعتبر رجلًا.
البارودة، الّتي تنعكس إلى حدّ كبير كجزء من التّراث العربيّ التّقليديّ، أصبحت مع مرور الزّمن مفهومًا مرادفًا للرّجولة، وكُتبت قصائد في هذا الموضوع، أشهرها قصيدة “طلّت البارودة”. تبدأ القصيدة بظهور الرّجل بعد غيابه، وتصفه بأسد (سبع) لم يظهر بعد. وفي الجزء الثّاني من السطر، تمّ وصف البندقيّة بأنّها مشبّعة بدمه ومرتبطة بجسد حاملها. إذا عادت البندقيّة لبيتها، فإنّ الرّجل سيعود أيضًا. ولكن في حال وقعت الكارثة، فإن البندقيّة الّتي هي جزء لا يتجزّأ من الفارس، لا تظهر أو تعود إلا مشبعة بدمّ البطل الّذي لم يعد حاملها:
طلّت البارودة والسّبع ما طلّ يا بوز البارودة من دمُّه مبتلّ
طلّت البارودة والسّبع ما أجاش يا بوز البارودة من دمُّه مرتاش
ما بيني وبينك سلسلة ووادي وين رحت غادي يا أعز أحبابي
في المقابل، في السّطر الأخير من القصيدة، يوصف الحصان بأنّه حيوان نبيل ويوجّه إليه السّؤال: أين ذهبت بالبطل؟ ألم تتركه عند باب القصر؟ فالإشارة إلى الحصان باعتباره من الإنسانيّة تشير إلى القيمة العالية للحصان الّذي يمتطيه الفارس ومسؤوليّته كشريك البندقيّة. أمّا الحصان النّبيل الملوَّن باللّون الأحمر الدّمويّ (الحمرا) فكان على مسؤوليّته الفارس الّذي يحمله عندما يُجرح في أرض المعركة، ولذلك على الحصان أن يعتني بالبطل الّذي يركبه ويحمل البندقيّة، وعند عودته كان عليه أن يترك الفارس قرب القصر – علامة النّصر. وعادةً ما لا تُترك البندقيّة في ساحة المعركة بعد سقوط الفارس؛ بل يقوم أحد أصدقائه بحملها إلى عائلة الفقيد:
حمرا يا أصيله وين رحت فيه بباب السّرايا بعلمي تركتيه
ويشير الاستخدام الواسع النّطاق لهذا السّلاح في الغناء خلال الأعراس ومن قبل الشّعراء إلى أنّ هذا السّلاح كان جزءاً من التّراث الرّيفيّ (ليس فقط عند العرب). خلال فترة الانتداب البريطانيّ على فلسطين. كان العديد من سكان القرى يمتلكون بنادق مصنوعة في إنجلترا، وخاصّة بنادق “الكاربين” و”الماوزر”. بالإضافة إلى ذلك، كان السّلاح ذو النّصل (الخنجر) رفيقًا دائمًا للفلّاح، وبدونه كان من الصّعب التّحرّك في المناطق الزّراعيّة والغابات البعيدة عن أي مستوطنات بشريّة.
وينعكس الجانب الاجتماعيّ للبندقيّة كعنصر لا ينفصل عن الهويّة العربيّة في التّوقّعات التّقليديّة للرّجال فيما يتعلّق بالنّجاح والصّلابة والسّيطرة وإظهار السُّلطة والثّقة العالية بالنّفس. وكانت التّوقّعات التّقليديّة الأخرى للرّجال هي أن يظهروا العدوانيّة والتّنافسيّة والقوّة، فضلًا عن تجنُّب إظهار المودّة والعواطف أو أيّ سلوك يمكن اعتباره أنثويًّا. إنّ التّوقعّات الاجتماعيّة تشجِّع الأولاد على تطوير دوافعهم العدوانيّة وقمع التّعبيرات الّتي يُنظر إليها على أنها لطيفة، من أجل إعدادهم ليصبحوا رجالًا، وهو الفعل الّذي يتمّ التّعبير عنه في حمل الأسلحة وإطلاق النّار.
الأسس الاجتماعيّة الّتي تقوم عليها فكرة حمل السّلاح هي: العادات الثّقافيّة التّقليديّة، الصّورة الذّكوريّة، رمز المكانة الاجتماعيّة، الشّرف، المسؤوليّة، القيادة والشّجاعة. على سبيل المثال: الشّباب ذوي الخلفيّات العنيفة، يعرضون القيم الثّقافيّة المتجسِّدة في الأغاني الّتي نشأوا عليها في المجتمع الفلسطينيّ. غالبًا ما تحتوي هذه الأغاني على تعبيرات عنيفة، وتُعزف في التّجمّعات الاجتماعيّة كالأعراس، حيث يُطلِق المسلّحون النّار في الهواء لإظهار قوّتهم في حمل السّلاح الّذي يُحدِث الضّجيج معلنًا للجميع أنّه متواجد ويستطيع الدّفاع عن نفسه.
فمن أطلق الناّر أثناء الزّيارة التّاريخيّة لعشيرة بني معروف للمقام المقدّس (سيّدنا النّبيّ شعيب عليه السّلام) في حطين، أراد أن يقول بصوت عال للجميع: نحن أبناء العشيرة المعروفيّة يدًا واحدة وقلب واحد، عشيرة واحدة موحَّدة وقويّة.
إلّا أنّ هذه العادة في غاية الخطورة رغم الهدف من إطلاق النّار في الهواء. فإن فقدان السّيطرة على السّلاح قد يؤدّي إلى إصابة الأبرياء خاصّة الّذين يقفون قرب حامل السّلاح أو في مرماه الباليستية. وهكذا ينقلب الفرح إلى ترح وإلى حزن وتراجيديا، مأساة سيحملها مُطلِق النّار مدى الحياة خاصّة إن كان المصاب قريب له! فلا حاجة لإطلاق النّار عشوائيًّا ولا حاجة لضجيج البنادق إلّا لوقت الحاجة. فالفرحة للقاء الأخ والصّديق والزّائر تكفي بتكريمه واستضافته بفرحة صادقة. كما قال المثل: لاقيني ولا تغدّيني. v
المصادر:
- إبراهيم بدارنة، كيف يرى الشباب في المجتمع العربي العلاقة بين الصورة الذكورية والعنف وحمل السلاح واستخدامه.
- يغئال حداد، الأسلحة والأسلحة غير القانونية في الوسط العربي.
- ويكبيديا
- نظرية جديدة للسيطرة على الأسلحة: مخطط تنظيمي فيدرالي لمحاسبة صناعة الأسلحة النارية في أمريكا على حوادث إطلاق النار الجماعي (أنجليزيه).