الموقع قيد التحديث!

كلمة العدد 164: فليعمرنّ المقام بأصحاب البيت الحقيقيين.. (2)

بقلم اسرة العمامة
دالية الكرمل – نيسان 2023

لقد عُرف عن فضيلة الشيخ أبي حسن عارف حلاوة شغفه بالعلم منذ حداثة وصغر سنه، وقد اشتهر بقدرته على الحفظ وبذكائه الكبير ودقّة ملاحظته وبشدّة اهتمامه بواجباته المدرسيّة هذا فضلًا عن أخلاقه العالية وآدابه الاجتماعيّة الراقية، ويُحكى عنه أنّه في أحد أعياد الأضحى الذي يستمرّ في العادة بضعة أيّام قد أخبر والدته أنّه لم يفرح بذلك العيد، لأنّه لم يُنهِ واجباته ومهمّاته المدرسيّة قبل حلول العيد، وورد في كتاب تناول سيرة حياته للكاتب سلطان القنطار مقولة شهيرة على لسان الأستاذ وديع مخايل عبد النور الذي درّسه ودرّس المعلّم كمال جنبلاط في صغرهما قبل الحرب العالميّة الأولى أنّه في الطائفة الدرزيّة رجلان، إذا أطال الله عمرهما لن يكون لهما نظير بين الدروز، وهما عارف حلاوة الشيخ الجليل الورع الديّان، وكمال جنبلاط القائد المعلّم والفيلسوف.

ولعلّ الأمر الذي لا يختلف فيه عاقلان هو أن الطائفة المعروفيّة ولّادة لمثل هذه الهامات الكبيرة، سواء كانت دينيّة أو سياسيّة اجتماعيّة، خصوصًا وأنّ مسلك التوحيد منذ ظهوره يقوم على التحقُّق والخوض في درجات المعرفة والفلسفة والعرفان من جهة، والحفاظ على الواقع الاجتماعيّ والدينيّ للطائفة على مرّ العصور من جهة أخرى، رغم أنّنا شهدنا في السابق كما نشهد في الحاضر ، بعض التغييرات والتعديلات التي طرأت وما زالت تطرأ أحيانًا للحاق بركب التطوّر والحداثة التي تنعكس على واقعنا الاجتماعيّ بأشكال مختلفة، ومع ذلك يبقى الأهمّ في هذا الشأن هو أن ما يحدث في الوقت الراهن وما حدث في السابق لم يحول ولا يمنع من طائفتنا المعروفيّة الغرّاء الاندماج مع الآخرين، والتلاقي معهم على حبّ العلم والمعرفة والتعلّم وتعدّديّة الثقافات والاحترام المتبادل. ويكفي هنا أن نعيد إلى الذاكرة ما قام به في حينه قبل أكثر من ألف عام الخليفة الفاطميّ الحاكم بأمر الله عام 1005م حين أسّس دار الحكمة أو دار العلم تلك الجامعة التي احتوت على نحو 1,600,000 مجلّد شملت وفقًا للمصادر 6,500 مخطوطة في الرياضيّات و18,000 مخطوطة في الفلسفة حيث كان الدخول إليها والاستنساخ والترجمة مجّانًا تشجيعًا لنهل العلم والثقافة والتعلّم.

ومنذ القدم وانطلاق دعوة التوحيد شكّل الدين والعلم والمعرفة محطّ أنظار أبناء التوحيد حيث لم تتوانَ العائلات الدرزيّة أينما وُجدت بإرسال فلذات أكبادها لطلب العلم في كلّ مكان مهما كانت الظروف المعيشيّة قاسية، ومهما انطوى الأمر على مشقّة وصعوبة في التنقُّل والسفر، ليعود هؤلاء الأبناء ويقوموا بواجباتهم في مجتمعهم كرجال دين وقادة روحانيين ومهندسين وعلماء ومعلّمين وأدباء وشعراء وأطباء وخبراء في مجالات مختلفة وسياسيين ورجال اجتماع وغير ذلك والحمد لله القائمة طويلة.

وممّا لا شكّ فيه فأن القيادات الروحيّة والسياسيّة والاجتماعيّة وعموم أبناء الطائفة المعروفيّة قد أولوا ركنيْن أساسيين أهميّة قصوى وهما الدين والعلم بحكم كونهما كنزًا واحدًا متجانسًا لمن يدرك مغزى ذلك، وقاموا بتشجيع الجميع أن ينهل من كليْهما إذا ما استطاع، فلولا وجودهما لضللنا الطريق ودخلنا إلى الفناء دون أن نشعر، لأنّ الحديث يدور عن معادلة متكاملة لكلّ عنصر فيها أبعاد وانعكاسات لها تأثير على حياتنا وكياننا ووجودنا. وعندما تتحدّث هذه القيادات الروحيّة والسياسيّة عن العلم يقصدون طلب العلم الكلّيّ لمعرفة حقائق الأمور بعللها ومعلولاتها والإحاطة الكلّيّة وفقاً لطاقات كلّ فرد وقدراته لنيل الفضيلة وارتسام النفوس بالأخلاق الحميدة، والابتعاد عن الموبقات، والتزام الحق والعدل والانصاف، وسلوك الصراط المستقيم والطريق القويم، وما أحوجنا لذلك في هذه الحقبة الزمنيّة التي تكثر فيها البِدع والأعمال السيّئة وقبيح أفعال البعض.

وفي هذه الأيّام المباركة التي تحتفل فيها الطائفة الدرزيّة الغرّاء بالزيارة السنويّة لمقام سيّدنا شعيب عليه السلام لا بدّ لنا أن نثني على المشاريع الدينيّة والثقافيّة الرياديّة التي يقودها الرئيس الروحيّ للطائفة الدرزيّة سماحة الشيخ أبو حسن موفّق طريف، والمجلس الدينيّ الأعلى للطائفة الدرزيّة في البلاد التي ترمي إلى تحويل هذا المقام الشريف إلى مركز رياديّ هامّ لاستقبال الزائرين، وصرح كبير للثقافة الدينيّة التوحيديّة يستوعب الطلّاب الدروز المتديّنين، وتتواصل فيه إقامة الندوات الدينيّة والاستماع إلى المحاضرات والأبحاث القيِّمة، هذا بالإضافة إلى إقامة معرض للرسومات والصور الدينيّة والتاريخيّة التي تحكي وتعبِّر  عن الإنجازات والتاريخ الناصع للطائفة على مرّ العصور،  ومتحف يجمع ما يليق بتراث وتاريخ الطائفة الناصع المميّز، ومكتبة تضمّ آلاف الكتب التي تعني بكافّة شؤون وقضايا الدروز  في كلّ عصر وزمان، كي يتمكّن كلّ زائر لهذا المقام الشريف من الوقوف عن كثب، والاطّلاع على ماضي وحاضر الطائفة المنير  والمُشعّ والمشرِّف. وبهذا الصدد نشير هنا إلى أن المجلس الدينيّ الدرزيّ الأعلى قد أصدر نداءً حول العمل الجاري على قدم وساق والتخطيط وإنشاء مركز تاريخّي، هو الأول من نوعه، لزائري مقام سيّدنا شعيب عليه السلام يهدف إلى تقديم ملخّص حضاريّ عن تاريخ الطائفة الدرزيّة وتاريخ المقام، وبناءً عليه وسعيًا لإقامة هذا المركز الهامّ على أكمل وجه، تمّ توجيه دعوة للمواطنين بتزويد القيّمين عليه بأغراض تاريخيّة ووثائق وصور أصليّة، ولوحات ومشغولات يدويّة لها صلة بالمقام الشريف أو بالزيارة له أو بالطائفة الدرزيّة عامّة.    

وفي هذا السياق أيضًا لا بدّ لنا أن نستذكر هنا ما كان قد بلوره المرحوم الشيخ سميح ناطور مؤسِّس ومحرِّر مجلة “العمامة” من فكرة وخطّة شاملة وقام بطرحه على سماحة الشيخ أبو حسن موفق طريف وبنشره في كلمة العدد 15 لمجلّة العمامة تحت عنوان “فليعمرنّ المقام بأصحاب البيت الحقيقيين” في نيسان 1990 حيث دعا آنذاك إلى إقامة كلّيّة للثقافة الدينيّة في مقام خطيب الأنبياء سيّدنا شعيب عليه السلام، كي يتحوَّل المقام الشريف إلى مقام يتلألأ بالنور والدين والثقافة، بالإضافة إلى إقامة مكتبة مركزيّة فيه تضمّ كافّة المراجع والبحوث والمصادر عن الدروز لوضعها تحت تصرُّف الباحثين، وتُركَّز جميع المنشورات المتعلّقة بالطائفة في مكان واحد، وتشجيع حفظ الوثائق وإبرازها واستعمالها لأغراض عمليّة، وتعرض الصورة الحقيقيّة التاريخيّة للطائفة الدرزيّة التي طُمست خلال سنين وأجيال طويلة.

والله ولي التوفيق..

زيارة مقبولة وكلّ عام والجميع بألف خير..

أسرة “العمامة”
دالية الكرمل – نيسان 2023

مقالات ذات صلة:

الصدق جوهرة تاج التوحيد

تعريف الصدق: هو النّطق بالحقّ، وصدق اللفظ في الكلام، وقول الحقيقة المتفقِّة مع اللِّسان والقلب، وهو عكس الكذب. تترافق عادة