هو العابد الزّاهد: محمد الكوْكباني، وُلد في قرية الشّعيرة في وادي التّيم سنة (987ه، 1567م)، عاش حياته يتيمًا في بلدة كوكبة حيث نُسب إليها، عمل برعي الماعز ليفي ضروريّات الحياة وكان شغوفًا بالعِلم منذ صغره، واستطاع أن يتّصل في تلك الفترة بالشّيخ العابد محمد أبي عُبادة، فعمل عنده في زراعة الأرض وتربية القزّ. وقد برع في علوم الدين وذاع صيته رغم حداثة سنّه. اشتهر بتقواه وأصبح مقصدًا لكلّ طالب علم وفِقه ودين، وكانت حياته غاية في الزُّهد والتّقشُّف والتّرفّع عن مغريات الحياة لذلك اكتفى بخبز الشّعير غذاء له وكان يقول: إنّ تعلّق الإنسان بالدّنيا هو من الفضول.
كان لباسه من خشن الثّياب ذات اللون الأزرق، وقد أمضى كثيرًا من حياته منعزلًا عن النّاس في جبل وادي التّيم الّذي سُمّي باسمه فيما بعد (جبل الشّيخ)، متعبِّدًا ليله ونهاره متهجّدًا بصوت منكسر حزين، قد ألحّ عليه النّاس كثيرًا ليتواجد بينهم لتوجيه الوعظ والإرشاد، فخصّهم بشهور الصّيف حيث يفسّر لهم آيات الله سبحانه وحكمته، واستمرّ الشّيخ الفاضل على حاله من العبادة والزُّهد والتّقوى على ضعف بدنه من الجوع الذّي كان يُلزم به نفسه والسّهر والعبادة، فمرض مرضًا شديدًا حتّى لاقى ربّه في ليلة الجمعة الثاني والعشرين من شهر شعبان من عام (1050 ه، 1630م) ودُفن في عين عطا في لبنان وأقام النّاس فوق قبره ضريحًا يُزار حتّى يومنا هذا.
قصّة الشيخ الفاضل مع وحش الجبل
رُوي عن الشّيخ الفاضل (ق) أنّه كان قد اعتزل النّاس في الجبل في مغارة يقضي طوال أشهر السّنة فيها متعبِّدًا، وحدث في أيّام الشّتاء أن سقط ثلج كثير على ذلك الجبل، ولم تجد الحيوانات البرّيّة والوحوش ما تأكله، فخرج وحش كاسر يبحث عن فريسة يأكلها، فلم يجد شيئًا طوال أيّام كثيرة، فعانى من الجوع كثيرًا وازدادت شراسته، وحدث أن اقترب من المغارة التي يتعبّد فيها الشّيخ الفاضل(ق) فاشتمّ رائحة بشر، فاقترب بسرعة يريد أن ينقضّ على مصدر الصّوت، وكان الشّيخ يصلّي يتهجّد بصوته المنكسر الحزين، وكان يتلو كثيرًا آهاته الحزينة الّتي تحمل التّذلّل للخالق والانكسار أماه والخضوع والسّجود، فوقف الوحش وجلس يستمع، وكان الشّيخ يقول: “آه من ثقل الأوزار، آه من قلّة الاستشعار، آه من غضب الجبّار، آه من المَثاب، آه من ذهاب الشّباب، آه من يوم الحساب، آه من عُظم الخطأ، آه من الزّلل، آه من خيبة الأمل، آه من قلبي ما أقساه، آه من عملي ما أرداه، آه من ربّي كيف ألقاه، آه من عهدي كيف أنساه، آه من عُظم الصّيحات، آه من عمل قد فات، آه من بُعد الطّريق، آمن من سبق الرّفيق، آه من عدم التّصديق، آه من ضُعف اليقين، آه من قلب حزين…..
فلمّا انتهى الشّيخ من تأوّهاته، ودموعه غطّت وجهه ولحيته كان الوحش قد رقّ قلبه، فتحامل على جوعه وأدار ظهره يريد العودة من حيث جاء، فناداه الشّيخ الفاضل: تعال يا صاحبي، مثلك أنا، أنت تبحث عن طعام تسدّ به رمقك، وأنا أبحث عن خلاصي لأختم به حياتي، ثمّ قدّم له كِسرات من الخبز بلّلها بالماء فتقدّم الوحش وأكلها مطمئنًا جالسًا بين يدي الشّيخ ثمّ غادره، وقد تعوّد أن يزور الشّيخ بشكل دائم فازدادت بينهما الألفة حتّى لاقى الشّيخ ربّه، رحمة الله عليه. وقيل إن هذا الوحش كان كاسرًا خطيرًا يهاجم كلّ من يصادفه ويفترسه، وقد قتل كثيرين ممّن صعدوا إلى الجبل، ولكنّه منذ التقى بالشّيخ الفاضل صار أليفّا لا يهاجم أحدًا. والله أعلم.
قصيدة للشيخ الفاضل نفّعنا الله ببركاته
يا مؤنسَ الأبرار في خلواتِهمْ يا خيرَ مَن حطّتْ به النُّزّالُ
مَن ذاق حبَّكَ لا يُريد زيادةً أنتّ الحبيبُ وما سِواكَ مُحالُ
وجمالُ نورك باهرٌ متألِّقٌ ما لا يعادله سنًى وجمالُ
وكمالُ مجدِكَ لا يُحدُّ لواصفٍ فليسَ فوقَ كمالِ ذاك كمالُ
يا مَن تعاظمَ أن يكونَ كمثلِهِ شيءٌ يُقاسُ به ولا أمثالُ
يا مَن تسرمدَ بالبقاءِ دوامُهُ مَن لا يدورُ بهِ فنًا وزوالُ
يا مَن علا بالمُعجزاتِ وقدرُهُ فوقَ الأنامِ فليسَ فيهِ جدالُ
يا خالق الأكوانَ يا نورَ الهُدى عزّ الجلالُ وجلّت الأفعالُ
يا مَن تعالى عن صفاتِ عبادِهِ يا مَن لا لهُ ضدٌّ ولا أشكالُ
يا مَن نفرّدَ بالكمال كمالُهُ يا ليتَ لي بالقُربِ منكَ وِصالُ
يا ليتً نفسي في هواكَ مُطيعةٌ فهواكَ صفوٌ للنُّفوسِ صقالُ
يا ليتني عبدٌ ليكّ مُتيَّمٌ فليسّ في الكونينِ منكَ بدالُ
مَن مات جهْدًا في هواكَ وطاعةً فالموتُ في رؤيا سناكَ حلال
يا ليتني أحظى بنظرةٍ ساعةٍ حُظوا كما حظيتْ بهِ الأعوالُ
يا ليتني عبدٌ بحبِّكَ صادقٌ صِدقًا كما صدقتْ بهِ العمالُ
يا مالكّ الملكوت يا مولى الورى يا صاحبَ الجبروتِ يا مفضالُ
فالقُربُ منكَ حياتُنا ونجاتُنا والبُعدُ منكَ مَتيهةٌ وضلالُ
والوصلُ بالتّوحيدِ نورُ قولبِنا والّدُّ عنكَ تحسُّرٌ وملالُ
يا مَن علا فوقَ الأنامِ جّلالُهُ ما لا يُقاسُ به عُلًى وجلالُ
إن جالتِ الأفكار في كُنهِ العُلى عدِمتْ وليسّ لها بذاك مَجالُ
عجزتْ عقولُ الخلقِ فهي كليلةٌ وتحيّرت في مجدِكَ الأبذالُ
يا ليتني جارٌ بقُربِكَ قاطنٌ أحظى بعزٍّ ليسَ فيهِ زوالُ
بالبيتِ والحَرمِ الأمينِ وحضرةِ السّادةِ الأطهارِ ليسَ يُحالُ
فإن مننتَ فقد أتيتَ برحمةٍ وإن مَنعتَ فليسَ لي مُحتالُ
سمعًا لأمرك يا مليكُ وطاعةً ورضى بما قدّرتَ يا فعّالُ
مولايَ لا تقطعْ رَجانا سيّدي مَن لا تخيبُ بجودِكَ الآمالُ
والحمدُ مُختصٌّ بمجدِكَ دائمًا والعِزُّ والتمجيدُ والإجلالُ
والشُّكرُ مقرونٌ بحمدِكَ لازمًا ما دامتِ الإنعامُ والإفضالُ
بعدَ الّصَلاةِ على النبيِّ وآلهِ والمجدُ والتّعظيمُ فيه يُقالُ
صلِّ وسلِّمْ ربُّنا وإلهُنا على علاهُ فليسّ منه فِصالُ