استيقظتْ نجوى على صوت بكاء مولودها آدم، فضمّته إلى صدرها وأرضعته، وكان ذلك في منتصف اللّيل، وقد هجعت إلى فراشها مرهقة متعبة، حيث قضت يومها في المدرسة الّتي تعمل بها، معلّمة تستقبل أهالي الطّلّاب في نهاية السّنة، تجلس مع كلّ أمّ أو أب أو الوالديْن معًا، تشرح لهما أوضاع ابنهما أو ابنتهما، وترى السّرور في عيون الّذين تبشّرهم بنجاح وتألّق وتفوّق ابنهما أو ابنتهما، وتلحظ بعض القلق والحيرة في وجوه الّذين لم تبشّرهما بالخير، لكنّها تطمئنهما أن ابنهما ما زال في الصّفّ الثّاني، وأنّ الأمر غير ميؤوس منه، ويمكنهما أن يتداركاه ويصلحا الوضع ليحقّقا ما يريدان من نجاح لابنهما. وكانت تتضايق حينما ترى أحيانًا عدم اكتراث، ولامبالاة عند بعض الأمّهات خاصّة، حيث تستغرب كيف أنّها أخبرتهنّ أنّ الابن والابنة في وضع غير مشجّع، وهذا يتطلّب جهدًا كبيرًا من البيت، أو من معلّم خاصّ، كي يستقرّ أمر الولد. وتتفاجأ بأنّ الأمّ لا تهتمّ، ولا تبدي قلقًا، وتقوم وتنسحب دون أن تفهم منها كيف ستعالج هذه المشكلة. وقد زادت حساسيّة نجوى بعد أن ولدت ابنها آدم قبل سنة، فأخذت تطعمه وتغسّله وتلاعبه وتحدّثه عن المستقبل، وأنّها تتوقّع منه أن يكون طالبًا متفوّقا ناجحا، وأن ينهي الدّراسة بتفوّق، حتّى يصل إلى الجامعة، ويتخرّج منها عالمًا كبيرًا، ثمّ يلتحق بأكبر الجامعات في العالم، ليصبح مشهورًا بأبحاثه واختراعاته، وتقول له بخبث: إنّه إذا فكّر بالزّواج قبل ذلك، فهي لا تنصحه بهذا، إلّا بعد أن ينهي تعليمه الجامعيّ، وفي هذا الحين، تقوم مع والده، ببناء بيت كبير له، مجهّز بكلّ شيء، وهي تتوقّع منه، عندما يحصل على الدّكتوراه في أمريكا، أن يدعوها مع والده، لحفلة التّخرّج، فيسافران ويقفان بزهوٍ وافتخار معه، وهو يضع قبّعة التّخرّج الجامعيّة على رأسه، ويحمل الشّهادة ويتصوّرون جميعًا، ويعودون إلى البلاد، فتسلّمه مفتاح بيته الجديد، وتقول له: الآن يمكنك أن تتزوّج يا حبيبي.
اطمأنّ آدم، بعد أن أحس بالدفء والشّبع، ونظر بحنوٍّ إلى أمه، الّتي حاولت أن يعود إلى النوم، لكنّه أعرب أنّه يريد أن يلعب، ولا يريد أن ينام. وكعادتها في السّنة الأخيرة، ولحبّها له، ولتعلّقها بزوجها، فهي مستعدّة أن تفني حياتها في خدمتهما. لذلك تنصاع لطلباته وتبدأ تتحدّث إليه كإنسان كبير، يفهم ما تقول، وتخبره عن أحلامها به، وأنّها تنتظر بفارغ الصّبر، أن يذهب إلى الحضانة، ثمّ الصّفّ الأوّل، وأعلنت أمامه أنّه في أقرب وقت، ستعلّمه القراءة والكتابة، وستشتري له لوحًا وطباشير، ليرسم ويكتب الأحرف ويتعلّمها، ويكتب اسم والده ووالدته وعائلته. وهي تريد أن يدخل الصّفّ الأوّل وهو يجيد القراءة والكتابة ليتقدّم أكثر، كما أنّها تريد، عندما يكون في المدرسة الثاّنويّة، أن تكون له مبادرات خارج التّعليم، وأن يكون قياديًّا، حيث يرشّح نفسه ليكون رئيس مجلس الطّلّاب، ليلقي كلمة في حفلة نهاية السّنة أمام الأهالي والحضور وزعامة القرية، ليصفّق له الجمهور، ويأتي إليها النّاس يقولون، الله يخّلي لك آدم يا أم آدم. فهو فصيح وقويّ وبارز وقائد مثل والده، الضّابط الكبير في الجيش.
وتدغدغ نجوى آدم وتقول له، اِضحك فأنا أريد ان أصوّرك، وأبعث صورتك إلى والدك، الّذي يؤدّي مهمّة عسكريّة في الجيش، وهو يتحرّق شوقًا إليك، لحملك ورؤيتك وتقبيلك. ونسيت نجوى أتعاب ذلك اليوم، والكدر الّذي صادفها من اللاّمبالاة الّتي أبداها بعض الأهالي، وأخذت على نفسها عهدًا، أن تنذر نفسها وإمكانيّاتها لآدم ولإخوته الّذين ستُرزق بهم، إن شاء الله، لكي يكونوا من البارزين في المجتمع، ولتعطي درسًا لأولئك الأهالي، الّذين لا يكترثون بما يحدث مع أولادهم. وكأنّ آدم فهم ما تريد أمّه، فكان يضحك ويبدو عليه الفرح، ويتجاوب مع أمّه، وكأنّه يشجعها أن تحلم وتخطّط، كأنّه يفهم أنّها سعيدة بذلك، وهو طبعًا يحبّها ويتمنّى لها الهناء وراحة البال وتحقيق آمالها.
وانقطع هذا الوضع الحالم الدّافئ بدقّات عنيفة على الباب، لم تعهدها، ولم تسمع مثلها في حياتها. وهناك كثيرون يأتون إليهم، ويطرقون الباب لكن بلطف، وتوجّست خيفة من هذه الطَّرقات، وحدّثها قلبها أنّ لا خير فيها، وتمالكت أعصابها، ووضعت آدم على سريره، وقامت لتفتح الباب وهي تقول مَن؟ وأجابها صوت تعرفه، هو صوت أحد وجهاء القرية، يعرِّف بنفسه ويقول، إنه قادم مع ضباط من الجيش في أمر يتعلّق بزوجها.
وكاد أن يُغمى عليها، وفهمت تقريبًا كلّ شيء، وبقي الأمل فقط، أن يكون جريحًا، وليس شهيدًا. ودعت ربّها، أن يمنحها الصّبر والشّجاعة والقوّة، لمواجهة هذا الموقف، واستعادتْ قوّتها، وفتحت الباب، فرأت عددًا من الضّباط، وكانت في لباس محتشم، ومعهم الوجيه، ومعهم ضابطات. ونظرت إليهم بانزعاج وتساؤل: قولوا بسرعة ماذا حدث، فتقدّم وجيه القرية وقال، يا أم آدم، أبو آدم جريح، أصيب في عمليّة عسكريّة، استعدّي مع آدم لتسافري معنا إلى المستشفى، لكي تشاهديه، ونحن وأنتِ نبتهل إلى الله، سبحانه وتعالى أن يمنحه الشّفاء، وأن تمرّ هذه الإصابة على خير.
وبعد ساعتيْن، وقفت نجوى حاملة آدم أمام سرير زوجها، تنظر إليه، وهو مغطّى بأغطية المستشفى، ويبدو وجهه صافيًا، لا أثر لجرح فيه، لكنّه غائب عن الوعي، ويداه وأنفه موصولة بأجهزة الإنعاش. وقيل لها، إنّه أصيب بصدره، وأنّ الإصابة قاسية، وقد أجريت له عمليّة مستعجلة، نأمل أن يستفيق منها، وأن يعود إلى الحياة. ولم تبكِ وإنّما وقفت واجمة، تقرأ في سرّها بعض ما علّمتها أمها من فصول وآيات وأدعية مناسبة لهذا الموقف، وجاء أهل زوجها وإخوتها، وحاولوا أن يواسوها ويشجّعوها، وأخذت تفكّر، مبتهلة إلى الله، أن يخرج زوجها من هذه الأزمة، وأن يعود إلى صحّته، ليكملا المشوار مع ابنهما، ويتحقّق بعض ما كانت تحلم به.
استمرّ هذا الوضع بضعة أيّام، وكان زوجها يتأرجح بين الموت والحياة، فحاول الأطبّاء أن يعيدوا إليه وعيه، لكن الأمور تعقّدت، ولم يستطيعوا ذلك، وقاموا بإجراء بعض التّعديلات في الرّعاية الطّبّيّة، آملين أن يتحسّن الوضع. وبعد حوالي أربعة أيّام، قضتها نجوى في المستشفى، بينما أخذ أهل زوجها آدم وقاموا برعايته. وفي صباح اليوم الخامس، شاهدت حركة غير عادية، أمام سرير زوجها، وطُلب منها أن تمكث قليلًا خارج الغرفة، كما فعلت في الأيّام السّابقة، حينما كان يأتي الأطبّاء لإجراء الفحوصات. وبعد حوالي نصف ساعة، خرج مدير القسم، يعلن عن أسفه وعن حزنه، أنّ زوجها الضّابط الكبير، كان قويًّا جبّارًا حتّى بعد إصابته، وأنّه صارع الموت خمسة أيّام، لكنّ الموت تغلّب عليه. وتقبّلت نجوى هذا الخبر بهدوء، ولم تصرخ، ولم تبكِ، وإنّما قضت كلّ ايّامها السّابقة، تبتهل إلى الله، سبحانه وتعالى أن يمنحها الصّبر والقوّة، على تحمّل أيّ مصاب أو حدث. وقد قلّبت في فكرها، جميع الأوضاع، وأخذت بالحسبان أنّ أمر الموت وارد في هذه الحالة. وهي طبعًا لا تريد ذلك، وتستبعده، ولكنّها كإنسانة مثقّفة ناضجة، تربّت في بيت متديّن عريق، يعبق بالإيمان وبالاتّكال على الله، استطاعت خلال أربعة أيّام، أن تكتسب من الصّبر الّذي منحه إيّاها، سبحانه وتعالى، قسمًا كبيرًا، لكي تحافظ على كرامتها واتّزانها واسمها أمام الجمهور والنّاس، وذلك كرامة لزوجها ولابنها ولأفراد عائلتها.
فوجئ الطّاقم الطّبّيّ، وفوجئ الحاضرون بهذا التّصرّف الأصيل الرّاقي، الّذي ينمّ عن ثقة كبيرة، وإيمان عميق، وشخصيّة قويّة، رغم أن الجميع يعرف أنّها تغلي داخليًّا، وأنّها تكاد أن تتفتّت حزنًا، وأنّ الحدث يكاد يقضي عليها، لكنّها تمسّكت بحبل الإيمان بالله، وتذكّرت كلام والديها، أنّ الله سبحانه وتعالى، عادل حكيم، وعلينا أن نقبل حكمه وقضاءه. وقد كانت تعرف أنّ هذه مجرّد أفكار وصفات وخصال حلوة، يتميّز بها المجتمع الدّرزيّ، لكنّها لم تتوقّع أن يأتيها التّطبيق لهذه الخصال بهذه السّرعة.
وعادتْ إلى البيت، وجرى لزوجها مأتم كبير في دفن الجثمان في المقبرة العسكريّة، وحضر رئيس الحكومة ووزراء وشيوخ الطّائفة وقادة المجتمع، والكل يبذل قصارى جهده، أن يواسيها، وأن يعزّيها، ويخفّف من مصابها، ذاكرين بطولات وشخصيّة ومناقب وصفات زوجها الرّاحل، الّذي تفتخر به الطّائفة والدّولة والقرية والعائلة، وكلّ من عرفه. وانقضت الأيّام الأولى، وهي مشغولة باستقبال المعزّين، ولا تنكر، أن هذه المشاركة، خفّفت من لوعتها ومن مأساتها. وجاء إليها آباء ثاكلون، وأمهات فقدن أبناءهن، وأرامل مثلها، وبنات توفي آباؤهن، وحدّثوها عمّا جرى لهم، وأنّه بقدر هول وكُبر المصيبة، يجب أن تكون هي أقوى وأكبر، وعليها أن تنتبه إلى ابنها، الّذي هو الآن بأمسّ الحاجة إليها، لتعوّضه عن فقدان والده. وكانت في هذه الأيّام متغلّبة على كلّ الأفكار السّيّئة، والآلام ومصاعب الفراق، لأنّها كانت دائمًا مغمورة بعطف وحبّ الزّائرين والمعزّين. وبعد أسابيع، توقّفت مسيرة المعزّين، وبقيت وحيدة مع أهلها وابنها الصّغير، وقد جاءت أختها لتنام عندها، كي لا تظلّ وحيدة، وقامت الأسرة كلّها بالاهتمام بآدم، وغمروه بكلّ الحبّ والعطف. وأدّت المؤسّسات الحكوميّة كلّ واجباتها، لكنّها، وحينما كانت تخلد إلى فراشها، وتحضن ابنها، تعود وتتذكّر اللّيالي والأيّام قبل أشهر فقط، حينما كانت تلاعب الصغير، وتحدّثه عن أحلامها وبرامجها وتوقّعاتها، فأحيانًا كانت تضعف وتبكي وتتحسّر لما حدث، وأحيانًا كانت تتشجّع وتستأسد، وتقول بينها وبين نفسها، إنّني، إن شاء الله، سوف أحقّق لآدم كلّ ما وعدته به، بالرّغم من أنّنا فقدنا والده. وصمّمت أن تزور القبر، وأن تحدّث زوجها المسجّى هناك، عن كلّ ما تفعله وتحقّقه مع آدم، كي ينام قرير العين، مطمئنًّا، أنّها ستحقّق الرّسالة، وتنفّذ البرامج والأحلام والأماني الّتي وضعاها سويّة، في أيّام الخطوبة، وبعد الزّواج، وفي أوقات الحمل القاسية، وفي يوم الولادة، حيث رافقها زوجها في غرفة الولادة، وكانت كلّما اشتدّ عليها الألم، تنظر إلى وجهه، فيبتسم مشجّعًا مقوّيًا مهدِّئًا، ويضع يديه على كتفيها، كي تستعيد الطّمأنينة والآمال. وعندما رأت آدم لأوّل مرّة، حال إبصاره النّور، نظرت إليه، وتمعّنت فيه، وتبسّمت، وتوجّهت إلى زوجها قائلة، “كأنّه أنتَ، ما أحلاه، وما أحلاك!”، وكانت في بعض الأحيان، تقوم وتلبس الرّوب الأبيض، الّذي زُفّت به، وتحمل آدم بين ذراعيها وتبكي وتقول: هذا الثّوب كان أبيض، والكلّ يعتقد أنّه أسودّ الآن، لكنّي أعاهدك أن يظلّ مصدر قوّة وعزم وإيمان، حتّى أحقق لك كلّ ما كان والدك يتمنّى ويخطّط أن تحقّقه…