كثيرةٌ هي الأسئلة الّتي تُطرح يوميًّا على أسماع مرشدي قسم التّوعية التّوحيديّة، الّذين يحملون أمانة نشر الوعي الدّينيّ والثّقافيّ بين أفراد مجتمعنا، للسّنة الثّالثة عشرة على التّوالي. ولعلّ إحدى أهمّ هذه الأسئلة المشهورة هو استفسار النّاس عن وجوبِ الاتّباع في المعتقد التّوحيديّ، والغاية من جعله عنصرًا أساسيًّا في تاريخنا التّراثيّ الحافل.
وقد اتّفقت علماء الأديان على اختلاف تخصّصاتها، أنّ الاتّباع ما بين محمود ومذموم. فالمذموم منها اتّباع الإنسان للهوى، وهو ميلانُ النّفس البشريّة إلى ما تستلذّه من الشّهوات والشّبهات والحرام، فينتج عنها بُعدُ الإنسان عن الله تعالى وطمسُ نورانيّة قلبه. وقد أوصى الله تعالى نبيّه داوود عليه السّلام في ترك الهوى قائلاً: (يا داوودُ إِنّا جعلناكَ خليفةً في الأرضِ فاحكُمْ بينَ النَّاسِ بالحقِّ ولا تتّبع الهوى فيُضِلُّكَ عن سبيل الله). أو كما عبّر عنه بشر الحافي رضي الله عنه في قوله: “اعلم أنّ البلاء كلّه في هواك، والشّفاء كلّه في مخالفتك إيّاه”. فالواجب على المؤمن أن يكون ناهضًا يقظانًا، يراقبُ قلبه ويهتمّ برياضة نفسه، لتصفو وتلتحق بالعالم الروحانيّ، مطبّقة شرعَ الله في قبول الحلال والامتناع عن الهوى الحرام.
أمّا المحمود من الاتّباع، فهو على فروع عدّة، أوّلها وأعظمها اتّباع ما نصّت عليه الكتب السّماويّة الكريمة، وما هدى إليه الأنبياء والرّسل عن الله تعالى في الفصل بين التّحليل والتّحريم، والحثّ على الخير ودحض الباطل على أنواعه، وتجنّب أهله والدّالين عليه قريبين كانوا أم بعيدين.
نذكر أيضًا من فروع الاتّباع، اتّباع أهل العلم والذّكر، الّذين أوصى الله تعالى بالقرب منهم، والاستفسار أمامهم فيما أشكل علينا فهمه، وفي ذاك يقول الله عزّ وجلّ (فاسألوا أهلَ الذّكرِ إنْ كُنتُمْ لا تَعلمون). فنفهم من عرض الآية ووصف الله إيّاهم بأهل الذّكر، مقدارَ ما أعطاهم الله تعالى من درجة وأهميّة كُبرى، وذلك ببركة ما أوتوا من العلم والمعرفة، وما وُهبوه من تميّز الاطّلاع الوافر الموثوق على الذّكر والعلم ودقائق معانيه. وقد قال فيهم سيّدنا الشّيخ الفاضل رضي الله عنه، في رسائله المعروفة إلى إخوانه قائلًا: “واذكروا مناقب الصّالحين، وكونوا لآثارهم من المقتفين، تنالوا المفاز يوم العرض والدّين، وهم الّذين هذّبوا نفوسهم، وجرّدوا عقولهم، وصفّوا بصائرهم، وحاسبوا نفوسهم، وأماتوا شهواتهم، وفنوا عن أهوائهم وإراداتهم، وأصلحوا مقيلهم ومثواهم، أهل الزّهد والتّقى والورع والآداب”.
وقد خصّ الله عزّ وجلّ طائفتنا التّوحيديّة الكريمة، بشخصيّات وهاماتٍ توحيديّة كبيرة، رسمت مناهج التّقوى، وقدّمت لأبنائنا إرثًا روحيًّا زاخرًا، يمتدّ إلى كلّ أطر الحياة دينيًّا ودنيويًّا، تمامًا كمثل ما عاينّاه من سلك المرحوم سيّد الجزيرة وشيخ العشيرة سيّدنا الشّيخ أبي يوسف أمين طريف (ر)، وعشرات من الأسماء والعمائم الّتي سطّرت تاريخ هذه الطّائفة، وتميّزت على مرّ السّنين بسلكٍ مشهور أو بمكانةٍ روحيّةٍ مشهودة، جعلت من أصحابها مرجعًا يعود النّاس إليه في الطّلب والسّؤال والمشورة وغيرها.
عليه، فلا بدّ لنا من تذكير السّائلين بفضيلة هذه الخصلة الشّريفة الّتي هي الاتّباع. وذلك لننفي ما أشكل على النّاس في قولهم أنّ الاتّباع منافٍ لتحكيم العقل والمنطق، بينما هو في الحقيقة إعمالٌ للبصيرة في تفقّد أولي العلم والذّكر، والاطمئنان إلى سلكهم وعلمهم، والتأكّد من صحة مذهبهم وسيرتهم وقربهم من الله، لنأخذ فيما بعد عنهم، ونقتدي بهم وبما أوصوا به النّاسَ وعلّموه.
فإنّهم ولفضل علمهم لم يعلّموا يومًا إلّا الصّدق والحقّ، ولم يجتمعوا يومًا على ضلالةٍ أبدًا، ولم يقع اختيارهم إلّا على كلّ خير. لا لهم في العلم رأي ينافي الخُلق، ولا في سلكهم فعلُ يناقض الدّين. إن نطقوا فعن كتاب الله، وإن أُمروا ففيما أمر الله، وإن تشاوروا قرّروا بما يرضي الله. نسأله تبارك وتعالى أن يقدّرنا على اتّباع الحقّ، والتقرّب من أهله، وأن يرزقنا اجتناب الباطل بصعبه وسهله، والحمد لله وحده في كلّ الأمور.