الموقع قيد التحديث!

شعاع على التّاريخ

بقلم الشّيخ أبو توفيق سليمان سيف
يانوح

منذ أكثر من ألف عام، تركّز سمع الدنيا وبصرها على الخاتمة الفاجعة، لأعجب صراع شهده تاريخ الفكر، وتاريخ الحياة الرّوحيّة في الإسلام. وتساءل النّاس عن النّبأ العظيم، وهم في غمرة ذاهلة من هول ما يترامى إليهم من همسات وأحداث، لقد غامرت الخلافة العبّاسيّة وقامرت بوجودها ومكانتها فألقت من أعلى مآذن بغداد برماد جثّة رجل… عُذّب وصُلب وحُرق في مشاهد مسرحيّة وحشيّة، لا تمتّ إلى الإنسانيّة، أو الآدميّة، بسبب أو نسب.

وحملت أجنحة الهواء ذات الرّماد الشّهيد إلى الآفاق، ومن ثمّ بدأ تاريخ عجيب رائع، ونبتت حياة سامقة شامخة، فقد تحوّلت كلّ ذرّة من ذرّات هذا الرّماد، إلى مئذنة ومنبر، يُتلى عليهما في مسمع الدّنيا ووجدانها وضميرها قصّة هذا الشّهيد، وحياة هذا المصلوب!!! ويا لها من قصّة، ويا لها من حياة، أراق عليهما الخلود فتنته وبريقه، وأكسبها الاستشهاد سحره ونوره، وأضفى عليهما الحبّ الإلهي جلاله وعطره ومنحها مقام الفناء بقاء يعجز كل فناء.

ومنذ أكثر من ألف عام، وقصّة هذا الشّهيد، تعيش متلألئة مشرقة متجدّدة في قلوب النّاس وعواطفهم، وتحيا مقنعة مبهمة ملهمة، في عقول المفكّرين وأقلامهم!! أشبه ما تكون باللحن الّذي اهتزّت أنغامه، وتشابكت أوتاره، ولكنّه مع هذا، نغم فاتن شجيّ، غنيّ ثريّ بالإلهام والخيال والأحلام.

وتحوّلت القضيّة والمأساة إلى أسطورة مجنّحة، ترتاد الآفاق المتناقضة، وتمشي مع الخيال الأسطوريّ إلى القمم العالية السّامقة، المجلّلة بالضّباب والسّحاب، فتزداد إبهامًا وغموضًا، كما تزداد سحرًا وبريقًا.

يقول المؤرِّخ الفرنسيّ -مويزو-: “إنّ التّاريخ هو ذاكرة البشريّة، ولكنّها ذاكرة قد تضعف حينًا، وقد تصطنع الضّعف أحيانًا”.

ولقد كانت تلك الذّاكرة، أضعف ما تكون، أو فُرِض عليها أن تكون أضعف ممّا تكون، وهي تقدّم للنّاس عبر القرون، تاريخ الحلّاج ورسالة الحلّاج. لقد زيّفت ذاكرة التّاريخ عن عمد خبيث، وعن تدبير هادف، واصطنعت صورًا خادعة مضلِّلة زائفة، لأعظم حقبة في تاريخ المعرفة الصّوفيّة ولأخطر رجل في تاريخ الحياة الرّوحيّة.

لقد عرفتْ جميع اللّغات حياة الحلّاج ومأساته، وامتلأت حقائب التّاريخ العالميّ، بألوان من الأساطير، حول فلسفته الرّوحيّة، وتعدّدت التّراث الإنسانيّ صور حيّة ومجاهداته القلبيّة، وسبحاته الوجدانيّة، ولكنّها صور وشّاها الخيال، واعتنى فيها المصوّرون بالتلوين والظلال، عناية طمست الحقائق، وغيّرت وجهها، وشوّهت لونها، وانحرفت بها، عن جوهرها ورسالتها.

ولقد تحاشى مؤرّخو الحياة الرّوحيّة في الإسلام هذه المأساة وسرّها وما يدور حولها، وتحاشاها القدامى تحت ظلال صيحات الرّعب والهول، الّتي أطلقها العبّاسيّون، مدمدمة حول الحلّاج وتاريخه، وحول مَن يلوذ به، أو يترنّم بلحونه وأهدافه، حتّى أنّ (السّراج الطوسيّ) وهو معاصر للحلّاج أو يكاد، وهو أكبر المؤرّخين للحياة الرّوحيّة، وسبر أعمالها ورجالها أهملها وتجاهلها، مع خِلالها ومكانتها.

وحتّى أنه ليستشهد في كتابه العظيم “اللّمع” في أكثر من خمسين موضعًا بكلمات الحلّاج في المعرفة والتّصوّف، دون أن يذكر اسمه، بل يصطنع تعبيرًا عجيبًا، فيقول: قال بعضهم!! أو قال القائل!!

وكذلك صنع المؤرِّخ الصّوفيّ   العلّامة (الكلاباذي) في كتابه “التّعرّف” فهو يروي كلمات الحلّاج الّتي ترسم آفاق التّصوّف، وتحدِّد مناهجه، دون أن يذكر اسمه، بل يصوغ تعبيرًا بديعًا هادفًا بقوله “قال أحد الكبراء”. وجاء في كتب الطّبقات الصّوفيّة، وتحدّثت في إسهاب، وفي إسراف عن كلّ ما يتعلّق بالتّصوّف ورجاله، وقادته وأعلامه، ثمّ مرّت سريعة خفيفة، بسيرة الحلّاج، أو حوّمت حولها، في حذر مصطنع، وتجاهُل متعمّد.

ثمّ جاء المحدِّثون من أصحاب الأقلام، فوقفوا حيارى ذاهلين أمام المأساة الحلّاجيّة، أو العقدة الحلّاجيّة، فقد زُيِّفت تلك المأساة تزييفًا فنّيًّا رائعًا، فتقنّعت أحداثها بالغموض، واشتبكت صورها بالأهواءـ أو تضاربت بها الأقوال، وامتلأت آفاقها بالأساطير والخيال.

فقد اشترك الجهاز العبّاسيّ العالي بكلّ قواه، وبكلّ عملائه، من علماء وفقهاء وشعراء وكُتّاب، في هذا التّزييف الّذي لم يعرف له التّاريخ مثيلًا. وجاء رجال التّاريخ الإسلاميّ، وجلّهم من الحنابل المتزمّتين فألقوا بكلّ ما في صدورهم من حقد على التّصوّف الإسلاميّ، على رأس الحلّاج وتاريخه ورسالته، وعجزت كلّ هذه الخصومات، وكلّ هذه الأباطيل والأساطير من أن تطفئ شعاع هذا الرّوح الكبير، وظلّ شعاعه الرّوحيّ يومض في أفق الحياة ومضات تترك آثارها ولمساتها في القلوب والعقول، وفي الضّمير الإنسانيّ، والوجدان البشريّ.

والتّاريخ كما يقول العلّامة “سبنس”: “لا يموت فإن حقائقه وإن توارت في زحام الأغراض، وصيحات الأقزام، تستعصي أبدًا على الفناء. ومن هذه الحقائق المتناثرة، نحاول أن نقيّم حياة، وأن نعرض هذه الحياة، بكلّ ما ابتدعت وابتكرت على النّاس، وأن نجعلها على جبين الشّمس واضحة سافرة.

الحلّاج شخصيّة غنيّة خصبة ملهمة، شخصيّة تفتح أبوابًا للتّفكير، ومسرحًا للخيال، ومجالًا للعاطفة، شخصيّة تعدّدت جوانبها، واتّسعت آفاقها، واحتشدت فيها الانفعالات النّفسيّة والوجدانيّة، والإلهامات الرّوحيّة والقلبيّة، والرّياضيّات العقليّة والجسديّة.

كما تمثّلت في وقائعها كافّة العناصر الّتي تضع بطولات التّاريخ ومعجزاته، بكلّ ما في البطولة من عزّة وسموق وعظمة واستشهاد، ونضال، وفداء، وقوّة. وفي إطار هذه الشّخصيّة الشّامخة، نعاصر حقبة حاسمة في التّاريخ الإسلاميّ، والفكريّ، والحضاريّ، فنرى الصّراع بين المعتزلة والحنابلة والشّيعة والسُّنّة، والفقهاء والصّوفيّة.

ونشهد حياة القصور العالية، وما فيها من إسراف وترف وشهوات وغوايات ومؤثّرات، وكيف تتشابك العواطف بالأحداث، لتجعل من الخلفاء العبّاسيين الّذين دانت لهم الأرض، أُلعوبة في أيدي العبيد والنّساء، وأشباه العبيد والنّساء، ونرى العالم الإسلاميّ، وهو يتمزّق بعد وِحدة، وتنتابه انتفاضات فكريّة وثوريّة، واقتصاديّة وثقافيّة. ونطالع الحياة الرّوحيّة، في أزهى عصورها، وأنبل صورها، عصر النّجوم المتلألئة، عصر المدارس الصّوفيّة الكبرى، الّتي دفعت بمناهجها في المعرفة والسّلوك، إلى ساحات الفكر الإسلاميّ، وأطلقت في جوّ عاصفة الجدل والحوار، والخصومات المذهبيّة الجامحة، أطلقت كلمات جذّابة حلوة، لها إغراء ورنين وبريق، كلمات الحبّ، والوجد، والشّوق، والأنس في الحضرة الرّبّانيّة، والسّاحة القدسيّة. وماثلهم هذه الكلمات النّورانيّة، من أدب النّفس، وسموّ الحسّ، وطهارة القلب، ونُبل الخلق، وتصعيد الأعمال كافّة إلى الله سبحانه، وإفاضة المعنى الرّوحيّ على كلّ شيء في الوجود، وما يترقرق حول هذه المعاني من أشواق ورياضات، وأذواق وإلهامات.

وفي قلب هذا الخضمّ، بانفعالاته المتوتّرة الحيّة، وبأفكاره المتدفّقة المحلّقة، وبأحداثه الثّائرة المضطربة، وبترفه وشهواته الجامحة. برزت شخصيّة الحلّاج لتُحدِث في الدّنيا دويًّا، وتحدث في الجماهير سحرًا، وتُلقي على كلّ شيء مَسَّتْه حياة وحرارة وانفعالا.

كان الحلّاج شخصيّة عبقريّة من تلك العبقريّات الاستهوائيّة، الّتي يعرفها التّاريخ في لحظاته الحاسمة. وبلغ من عظمة هذه الشّخصيّة أنّها غدت النبأ العظيم في آفاق الإصلاح والثّورة.

كان الحلّاج يملك قوّة روحيّة عالية، من تلك القوى الّتي يفيضها الله على مَن يشاء من عباده، وكانت تلك القوى الرّوحيّة تمنحه فيما تمنح، القدرة الموحية المؤثّرة الصّانعة في عواطف النّاس وقلوبهم وأحاسيسهم، وتُضفي عليه طاقة تلهم الآمال الكبار، لكلّ مَن يلوذ به، أو يدنو منه، بل لقد شهد أمناء أتقياء، بأنّه كان يؤثّر بروحانيّته السّحر والشّعوذة، وتوهّم أحبّاؤه فيه القدرة الخارقة من صنع المعجزات، حتّى لقد نسبوا إليه، إحياء الموتى، وبعث من في القبور!! وكان يقول شيخ الصّوفيّة الأكبر محيي الدّين بن عربي، في الباب الثّالث والسّتين وأربعمائة، من كتاب – الفتوحات المكّيّة-: “إنّ الحلّاج كان يدخل بيتًا عنده يسمّيه باب العظمة، فكان إذا دخله ملأه كلّه بذاته بأعين النّاظرين، حتّى أن بعض النّاس ممّن لا يعرف تطوّرات أحوال هذا المقام، نسبه إلى علم السيميا لجهله بأحوال الفقراء في تطوّراتهم.

ولمّا دخلوا عليه ليأخذوه للصّلب، كان في ذلك البيت فما قدر أحد أن يخرجه من ذلك البيت، لأن الباب يضيق عنه، فجاء الجُنيد وقال له: سلّم لله واخرج لما اقتضاه وقدّره، فرجع إلى حالته المعهودة، فخرج فصلبوه.

ويقول أحد معارفه: “حرّك الحلّاج يده يومًا فانتثر على قوم مسك، وحرّك مرّة أخرى يده فنثر دراهم”.

ويقول العلّامة البغدادي: ” لم يمت الحلّاج، بل ارتفع إلى السّماء وسيعود”. لقد عجز الموت في أبشع صوره، وأقسى ألوانه، أن ينتزع الهالة الكبرى، الّتي تحيط بتلك الشخصيّة الشّامخة الرّائعة.

ويمشي سحر الحلّاج وجلاله، وتأثيره القويّ الخلّاب، إلى رجال الاستشراق فيتحدّثون عنه كبطل أسطوريّ، من رجال الغنوص (أي العلم والمعرفة) الشّرقيّ وكشخصيّة مكرّرة من شخصيّة المسيح عليه السلام جاء ليعيد مأساة جبل الجلجلة (الجبل الّذي صُلب عليه المسيح) وليكرّر فكرة الفداء، فداء البشريّة من الخطيئة الأولى.

ولكن هل حشدت الخلافة العبّاسيّة، كلّ قواها لقتال الحلّاج، وأعدّت كلّ ما تملك من وسائل الجبروت الوحشيّ، والعنف البربريّ في عذابه ومحاكمته وصلبه، من أجل مواجيده وألحانه في الحب الإلهيّ، ومن أجل إلهاماته وفتوحاته، في مقامات الغناء الصّوفيّ، وعجائبه وقدرته على الإيحاء والإلهام، وصنع الكرامات والمعجزات!!

يقول أحد المفكّرين الكبار: “لقد كان الحلّاج جسورًا على السّلاطين يروم انقلاب الدّول”.

ويقول إمام الحرميْن: -الجويني-:  “إنّ الحلّاج كان يريد قلب الدولة، والتّعرّض لإنسان المملكة”.

ويقول المستشرق نيكلسون في كتابه – الصّوفيّة في الإسلام- ” إنّ قتل الحلّاج أمْلَتهُ دوافع سياسيّة لا تعرف الرّحمة”.

ويقول العلّامة -جولد زيهر- في كتابه – محاضرات عن الإسلام-: “لقد أثّرت صيحة الحلّاج الصّوفيّة معرفة الله تأثيرًا عميق الأثر، في الحياة العلميّة الإسلاميّة”. ثمّ يقول: “لقد أخذ الحلّاج يتدخّل في حياة المجتمع الإسلاميّ تدخُّلاً شديد الوطأة”.

ويقول العلّامة المستشرق -ماسنيون-: “كان الحلّاج يحرّك الجماهير، وينادي بالإصلاح، ويبشّر بفكرة الحكومة المثاليّة الّتي تقيم الشّريعة على نغمات المحبّة والعبادة الخالصة لله”.

وإذن فصيحة الحلّاج الصّوفيّة الإصلاحيّة، ودعوته إلى إقامة حكومة ربّانيّة، هي سرّ المأساة الكبرى، أو إحدى أسرار تلك المأساة الكبرى. ومأساة الحلّاج، كوّنتها عناصر تاريخيّة ونفسيّة وخلقيّة، وفي طليعة تلك العناصر، الرّهبة الّتي استشعرها العبّاسيّون من القوى الصّوفيّة النامية، الّتي أخذت تهيمن على العراق في القرن الثالث الهجريّ.

يقول العلّامة ابن الأثير بعد أن شرح الموقف في الإمبراطوريّة العبّاسيّة والصّراع النّاشب بين الفرق والطّوائف: “ولكن فرقة واحدة بقيت بعيدة عن التّعصّب، ألا وهي فرقة الصّوفيّة، فقد كانوا يمتازون بسلامة الفكر والعفّة والأخلاق الحميدة كما كان أفق تفكيرهم أوسع بكثير من غيرهم فأكسبهم هذا حبّ كثير من النّاس، وأخذ نفوذهم يزداد ويقوى، وهرع كثير من النّاس إلى حظيرتهم بعد أن رأوا الزّمان وقسوته، وكثرت مجالس الصّوفيّة، وأقبل النّاس عليها”.

تلك هي مكانة التّصوّف في العراق خلال تلك الحقبة من التّاريخ، لقد غدا أتباعه، القوّة الحيّة النامية في المحيط الممزّق المضطرب. وكان في بغداد، عمالقة من الأئمّة الرّوحانيين، وزعماء من القادة الصّوفيين، كان هنالك أبو القاسم الجنيد، والشّبلي وسهل وعمر المكّيّ، والسّريّ السّقطيّ وغيرهم من الأقطاب الكبار.

ولكن الحلّاج، كان أقواهم شخصيّة، وأوسعهم نفوذًا، وألصقهم بالجماهير، وأكثرهم قدرة على حمل راية الكفاح والنّضال.

 كان الحلّاج يحمل روح ثائر، وقلب قطب، وعقل زعيم، وروح محبّ عابد، وكان يؤمن بالتّصوّف القرآنيّ الإيجابيّ، الّذي يسهم في الأحداث ويوجّهها، ويترك طابعه عليها. وكان يبشّر عن عقيدة ثابتة لا تتزلزل، بحكومة الأقطاب الروحانيين، كما كان يؤمن بأثر الصّلاة والعبادة ومحبّة الله، في إصلاح المجتمع والارتفاع بالجماهير إلى أفق أنبل وأعلى.

ومن هنا كان الحلّاج في نظر الخلافة العبّاسيّة، هو الزّعيم الصّوفيّ الّذي يهدّد سلطانها ونفوذها. ويؤلّب الجماهير ضد مظاهر التّرف والإسراف والشهوات العالية الصّوفي محافلها وقصورها.

يقول -ماسنيون-: ” لقد طالب الحلّاج بإصلاح الإدارة الحكوميّة في جرأة غير مسبوقة. ونادى بإقامة حكومة إسلاميّة حقًّا، ووزارة كما يقول: تحكم بالحقّ والعدل بين النّاس، وهاجم عمّال الخراج، وطالب كما يقول: بخلافة تشعر بمسؤوليتها أمام الله جلّ جلاله، ممّا يجعل الله يرضى عن قيام المسلمين بفروض دينهم، من صلاة وحجّ وصيام”. تلك بعض الومضات التي نومئ إلى بعض جوانب الرّسالة الّتي نهض بها الحلّاج. ولن يضير الحلّاج، إنّ النّجاح لم يُكتب لرسالته، وأنه قدّم حياته فداء لتلك الرّسالة، فقد يكون الاستشهاد في سبيل الفكرة والعقيدة، أسمى ألوان النّجاح، وأعلى ضروب النّصر، وكما يقول ابن أبو الخير في ملحمته الحلّاجيّة: “إن الموت على مصلب الحلّاج، ميزة الأبطال”.

لقد كانت تضحية الحلّاج هي سرّ خلوده، فقد صعد الحلّاج بتلك البطولة الفدائيّة إلى قمّة الكمال كالنّسر الجبّار الجناح، وغدا في قلوب المتصوّفة وعقولهم. محجّة ومنارة ترشد إلى المثل الأعلى في إشراقاته وإلهاماته، وأصبح الحلّاج بهذا الاستشهاد الأسطوريّ الملهم الأكبر لمواجيد الشعراء وألحانهم وأغانيهم في الأفق الصّوفيّ. فهو في الشّعر الذكيّ، لبولي الأكبر، وهو لدى الهنود شهيد الحقّ، وهو الملهم الأوّل لعباقرة الشعراء الفارسيين العالميين، حافظ الشيرازي وجلال الدين الرومي وفريد الدّين العطّار.

وامتدّ إلهامه عبر القرون، فنشأت الفرق الصّوفيّة الكبرى، على وقع نغماته، ودعواته، وهدى تفكيره وآدابه، حتّى أن البكتاشيّة الّتي هيمنت على تركيا وألبانيا قرونًا عديدة، ترجع في أصولها إلى الحلّاجيّة.

يقول الدكتور عبد الوهّاب عزّام: “فكان عند الصّوفيّة ولا سيّما صوفيّة العجم والهند، كالمسيح عند النّصارى، واتّخذوا كلماته شعارًا ودثارًا وأشاروا بذكره وجعلوه مثلاً للصّوفيّ الفاني في الله.

يقول المستشرق -ماسنيون-: “إنّ أقوال الحلّاج ترسم به حياة بعد موته، ذات طابع حضاريّ عميق، وأكثر صدقًا من النّاحية الاجتماعيّة. ومن الشّهرة الأدبيّة الّتي نالتها نماذج مثل الإسكندر أو قيصر في الغرب”.

ثمّ يقول: “كان الحلّاج نموذج الوليّ الّذي مجّده الشّعب التّركيّ المجاهد الّذي أقبل على الإسلام في أعقاب مصرع الحلّاج.

مقالات ذات صلة:

العدد 4 – اب 1983

العدد 4 – اب 1983 Share on whatsapp Share on skype Share on facebook Share on telegram لتحميل العدد Pdf