لقد حالفني الحظّ والتقيت مؤخّراً بالشّيخ أبو نبيل محمد نجيب أسعد عامر صاحب الوجه البشوش، والملقى الحسن، والقلب الطّيّب، والمعرفة الواسعة في منزله العامر في قرية البقيعة، وهو من مواليد الخامس من شهر كانون الأوّل عام 1930، وكان شاهدًا على فترة الانتداب البريطانيّ في المنطقة رغم حداثة سنّه آنذاك، وعلى فترة قيام دولة إسرائيل، وما واكبهما من أحداث.
في مستهلّ حديثه تطرّق الشّيخ أبو نبيل محمد عامر إلى طبيعة حياة سكّان قرية البقيعة قبل قيام الدّولة وفي سنواتها الأولى واصفًا بروحه المرحة وبحنكته تلك الحقبة الزّمنيّة الّتي ارتكزت في الأساس على الزّراعة، وفلاحة الأرض، وزراعة القمح والحبوب والشّعير والعدس، وتربية المواشي والخيول الأصيلة، بعصر الحمار والحصان حيث استخدمهما السّكّان للعمل والتّنقّل والسّعي بكدّ واجتهاد لكسب الرّزق ولقمة العيش الحلال، وسط ظروفٍ حياتيّة صعبة وشاقّة.
وإن لم تكفِ الظّروف المعيشيّة الصّعبة، يستعيد الشّيخ أبو نبيل ذاكرته إلى العام 1950 حيث كست الثّلوج قرية البقيعة على ارتفاع فاق المتر الواحد، وقد غطّت الثّلوج السّناسل لتصبح الأرض قطعة سهليّة واحدة، ويشير إلى أنّ كمّيات الأمطار الّتي كانت تهطل في تلك السّنوات واستمرارها بتواصل كان يفوق ما هو الحال عليه في أيّامنا هذه.
وفيما يخصّ بأحداث عام 1948 وقيام دولة إسرائيل، يقول الشّيخ أبو نبيل محمد عامر : إنّه عندما دخل الجيش الإسرائيليّ إلى قرية البقيعة لم يواجه أيّ مقاومة بل على العكس تمامًا تمّ استقباله بحفاوة، خصوصًا بعد أن اتّضح أنّ جنودًا من الدّروز من قريتي عسفيا ودالية الكرمل تطوّعوا وانخرطوا في صفوفه، وقد قام الجنود بتوزيع الحلوى على أهالي القرية وأخبروهم بأنّه لن يتمّ إخراج السّكّان الدّروز من منازلهم، ممّا دفع بسكّان القرى المجاورة باللّجوء ولو مؤقّتًا إلى منازلهم حيث آوى منزل أسرة الشّيخ أبو نبيل أكثر من خمسين شخصًا وفّروا لهم المبيت والماء والطّعام قبل أن يواصلوا انتقالهم شمالًا. إنَ هذا الحال لم ينسحب، يضيف الشّيخ أبو نبيل على قرية سحماتا المجاورة الّتي قام سكّانها آنذاك بمقاومة ومحاربة الجيش الإسرائيليّ ودُمِّرت كليًّا ونزح سكّانها عنها.
قام الشّيخ أبو نبيل لاحقًا بالانخراط في الجيش الإسرائيليّ كما فعل أبناؤه لاحقًا الّذين انخرطوا في وظائف هامّة في الجيش والشّرطة، إلّا أنّه سرعان ما أضطُّر للعودة للقرية بطلب من أهله وبمساعدة ضابط من قرية ساجور لأنّه كان دون السّنّ المطلوب للخدمة العسكريّة رغم رغبته الشّديدة في الأمر، وقد فُرض على المدن والقرى العربيّة في البلاد في تلك الحقبة الزّمنيّة النّظام العسكريّ ممّا اضطر السّكّان لتقديم طلبات للحصول على تصاريح تنقُّل من مكان لآخر.
أبدى الشّيخ أبو نبيل منذ صغره شغفه بالعلم وبمجال الالكترونيّات، وكان أوّل من اقتنى تلفاز في القرية، ودخل المدرسة في سنّ السّابعة حيث لم يُسمح في حينه للأولاد بدخول المدارس قبل بلوغ سنّ السّابعة، وتعلّم حتّى الصّفّ الرّابع مستذكرًا والده المرحوم الشّيخ نجيب عامر الّذي لم يتوانَ، ودرس بما عُرف في حينه بمدارس المسكوب الّتي كانت تتبع لجهات تبشيريّة مسيحيّة، وفتحت أبوابها أمام الطّلاب في الأماكن الّتي تواجد فيها سكاّن مسيحيّون وبضمنها قرية البقيعة وكان من الطّلّاب المتفوّقين، وأجاد اللّغة الروسيّة الّتي درس بها وتميزّ بخطّه الجميل وقام بكتابة النّصوص المختلفة، ونظرًا لتفوّقه أرادوا نقله لمواصلة الدّراسة في مدينة النّاصرة إلّا أنّ والده المرحوم الشّيخ أسعد عامر مختار القرية آنذاك رفض ذلك حرصًا على سلامته لصغر سنّه. وفي ختام حديثه أشاد الشّيخ أبو نبيل محمد عامر بالتّعايش المشترك الّذي ساد بين الطّوائف الأربعة المختلفة في قرية البقيعة على مرّ الزّمن، وناشد الجميع بالحفاظ على المحبّة والألفة والتّعاون والعادات والتّقاليد والحياة المشتركة في قرية البقيعة الّتي يفتخر ويعتزّ بها وكوّن أسرة كريمة فيها.