حينَ كانَ الشَّيْخُ سَعيدُ البْقَعْسَماني، مِنْ قَرْيَةِ بْقَعْسَم مِنْ قُرى إقْليمِ الْبَلاّنِ، في حَداثَةِ سِنِّه، غَضِبَ عَلَيْهِ أبوهُ يَوْماً ما، لَحِقَهُ لِيَضْرِبَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ وَالْتَجَأَ إلى تَلٍّ مُجاوِرٍ لِقَرْيَتِهِمْ، فَصارَ يَدورُ حَوْلَ هَذا التَّلِّ وَأَبوهُ يَلْحَقُهُ وَيَلومُهُ. وَبَعْدَ فَتْرَةٍ تَعِبا وَتَوَقَّفا فَقالَ لأبيهِ: يا أبي أنْتَ في مَسيرِكَ حَوْلَ التَّلِّ تَكَلَّمْتَ بِكلامٍ رُبَّما لَحِقَكَ فيهِ آثامٌ، وَأَنا في مَسيري حَوْلَ التَّلِّ قَرَأْتُ شَيْئًا مِنَ الذِّكْرِ الْكَريمِ، فَأَيُّنا أَوْفَرُ أجْراً؟ فَرَضِيَ عَنْهُ والِدُهُ وَاسْتَرْضاهُ.
عاصر سيّدُنا الشّيِخ سعيد البْقَعْسماني عَهْدَ الأمير السّيّد جمال الدّين عبد الله التّنوخيّ (ق)، وكانَ مِنْ تَلاميذِهِ الأوائِل، وَالْتَحَقَ بخدمته وَبِمَدْرَسَتِهِ. قَرَضَ الشِّعْرَ باكرًا، وَتَعَزّلَ بِالعِزّةِ الإلهيّة. ونَظَمَ قَصيدَةً طَويلَةً دَعاها “الغُرّة”. مَدَحَ بها الأنْبِياءَ والرُّسُلَ الكِرامَ مُنْذُ نوح حتّى الرَّسُولِ العَرَبِيِّ الكَريمِ مُحَمّد الْهاشِمِيّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وكانَ الشَّيْخُ ناطورًا لِبَساتينَ عَبْرَ النَّهْرِ، وَكانَ يَقْطَعُ النَّهْرَ مِنْ جانِبٍ إلى آخَرَ عَلى خَشَبَةٍ وَضَعَها هُناكَ. فَجاءَ أشرارٌ مِنْ قَرْيَةِ بْقَعْسَم وَنَشَروا الْخَشَبَةَ إلاّ قَليلًا مِنْها، فَجاءَ الشَّيْخُ لَيْلًا وَقَطَعَ عَلى تِلْكَ الْخَشَبَةِ كَعادَتِهِ، فَسَقَطَ في النَّهْرِ وَاخْتَنَقَ. وَكانَ اللَّيْلُ مُظْلِماً، فَصارَ جُثْمانُهُ الطّاهِرُ يُضيءُ في النَّهرِ بِقُدْرَةِ اللهِ تَعالى. سارَعَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ إلى النَّهْرِ وَانْتَشَلوا الْجُثْمانَ الطّاهِرَ وَدَفَنوهُ في قَرْيَتِهِ بْقَعْسَمْ.
