بسم الله الرّحمن الرّحيم
في ظلّ مقام سيّدنا ونبيّنا شعيبٍ عليه السّلامُ نلتقي، لنشهدَ في هذا المساءِ المُبارك الميمون، تحقيقَ أمنيةٍ بدتْ في الأمسِ القريب صعبةَ المنال، حتّى قال لها الكريمُ: تحقّقي، فتيسّرَت وانقَشَعتْ عنها سُحُبُ الـمُحال، فالحمدُ لله الّذي أذِنَ بعد المَنع، وجادَ بعدَ الرّجاء، وجمعَ بعد الانقطاع، وأبدَلَ القلقَ بالطّمأنينة والضّيقَ بالاتّساع.
أمّا بعد، فإنّنا أيّها الإخوةُ أمام موقفٍ تاريخيٍّ نادر، تشرّفنا فيه وتكرّمنا بتشريفِ هذا الوفدِ المكرّم الزّاهر، بعد أنِ التأمَ هذا الجمعُ الشّريف في مشهدٍ بديعٍ بهيّ، وتحقّقَ الوصلُ المنشود بعدَ شوقٍ صادقٍ وفيّ، واستُجيبَ الدّعاءُ الّذي كانَ في سويداءِ القلبِ ساكنًا خفيّ، لنشهد معًا وإيّاكم حلول هذا اللّقاء الّذي صاغتهُ أيادي القدر بعناية، وحصول هذا التّوفيق المقدَّر الّذي كتبَهُ الله تعالى لحكمةٍ وفضلٍ ورعاية، جاعلًا منهُ يومًا في صحائف المجدِ الطّويلِ مسطَّرًا، وفي صفحات ذاكرتنا التّوحيديّة محفوظًا مُسجّلًا.
فيا مرحبًا بكم وأهلًا أيّها الحضورُ الإخوان، القادمون من حَضَر السّوريّة ومن إقليمِ البلّان، الحاملون لتاريخِ الشّجاعةِ ولبطولاتِ سُلطان، الدّاخلون من أوسع أبواب المجدِ بغير استئذان، النّاهلون عن منابعِ الأناةِ والتّواضُعِ والعرفان، السّائرونَ على دربِ التّضحيةِ والشّموخ والإباء، في سبيلِ الذّود عن الدّينِ والعِرض والأوطان، فكّأنّنا وإيّاكم بما لكم في القلوبِ من محبّةٍ وإيثار، كمثل روحٍ واحدةٍ توزّعتْ بين الأبدان.
إنْ تألّمتم تألَّمْنا، وإنْ فرحتُم فرِحْنا، وإنْ نادتْ جبالُكُم الشّمُّ “يا غيرة الدّين”، تردّدَ صداها في قُرانا ومُدُنِنا. لا الحدود بيننا تفرِّقُنا، ولا طول المسافات يُثنينا ويُتعِبُنا، ولا الشّدائدُ تُضعِفنا، ولا المصاعبُ ترهِقُنا، بل نجعلُ منها جسورًا تُوصِلنا، حاملين بيارقَنا المخمّسةَ البهيّة الّتي رفعناها عند الشّدائد الحالكات في ساحات الوغى، واحتمينَا بسرِّها وظلِّها في النّجاة والبقا، فَما خذَلتنا يومًا في المصاعبِ والمحن، وما خانتنا قطعًا عندَ وقوع الفِتَن.
وها نحنُ اليوم وإيّاكم، على أرضِ هذا المقامِ المُبارك المقدّس الشّريف، الّذي دعا فيه سيّدُ الجزيرة وشيخُ العشيرة، فضيلة جدّي المرحوم سيّدنا الشّيخ أبو يوسف أمين طريف، لنُصرة إخواننا الموحّدين في خضمّ حرب الشّحّار، فكانَ دعاؤُهُ على أعدائِهِم دمارًا وخُسرانًا وانكسار. هنا، في هذه البقعة الطّاهرة في حطّين، حلَّتْ وفودُ مشايخنا القادمين من سوريّا عام 1974، وقد أقبلوا شائقينَ بقلوبٍ عامرةٍ بالإيمان، وألسنةٍ تلهجُ بالشُكران، لتكونَ الزّيارة الأخيرة الّتي طوتها أيادي البُعد والانقطاع، وأغلقَتْ خلفَها أبوابَ الوصلِ والاجتماع.
وها نحنُ اليوم، وبعد واحدٍ وخمسينَ عامًا من الأملِ والشّوق، نعيشُ بحضورِكم أيّها الإخوةُ لذّةَ ما مضى وكان، ونطوي صحائفَ الشّتات والهجران، لتعودَ خُطاكُم بيننا في الدّيار، وتُضاء من جديد مشاعلُ السّعدِ والأنوار، مُجدّدين ما ثبتَ من عهدِ الوِحدة والوداد، متمسّكين بما توارثناهُ جيلًا بعد جيل أبناءً بعد أجداد، إذ كانتِ الأخوّةُ عندنا ليست مجرَّدَ كلمةٍ تُقال، بل هي نهجٌ نتّبعُهُ وميثاقٌ نحمِلُهُ في سائرِ الأزمانِ والأحوال.
وإنّنا إذ نشهدُ اليومَ هذه الزّيارةِ الأنيسة، الّتي تأتي في حقبةٍ تاريخيّةٍ دقيقةٍ ذاتِ تغييراتٍ وتحوّلات، نُعلنها بلا رَيْبٍ وعلى رؤوس الأشهاد: لسنا دعاةَ سياسة بل حاملي أمانة، نطمحُ من خلالِها كأصحابِ ذمّةٍ ومسؤوليّةٍ لحفظِ كيانِ الطّائفةِ الدّرزيّة في بلادِنا وفي دول الجوار، مؤمنين بأهميّة إيصالِ صوتِنا المعروفيّ ووضعِ بصمتنا الطّائفيّةِ الخاصّة في التّأثير على مُجريات الأحداث، ساعين من خلال ذلك لإحقاق الحقّ ونَيْل الحقوق، والحفاظِ على أهلنا وإخواننا الموحّدين في كلّ مكان من كلّ شرٍّ ومكروه.
هذا هو موقِفُنا الطّائفيّ الإنسانيّ الثّابت، الّذي نطقنا بهِ وعملنا لتحقيقه في ظلّ ما تشهدُهُ سوريا من تطوّراتٍ وتبدُّلات، تحتّمُ علينا كطائفةٍ دينيّةٍ صغيرةِ العدد، عظيمةِ الأثر، أنْ نعتمدَ الوحدةَ والائتلاف، ونجتمعَ حول مشورةِ أصحابِ العقول والبصائر الرّجيحة، لنتفادى الوقوع في مهاوي الانقسام والخلاف، مؤمنين أنّ هذا التّكتّل الطّائفيّ المنشود، كان وسيبقى سيّد الموقف والعربون الوحيد لحفظ حقوق الطّائفةِ في المستقبلِ القريب والبعيد.
كُنّا قد صرّحنا بصريحِ العبارة ولا نزال: الطّائفة الدّرزيّة حلقةُ أساسيّةٌ ومفصليّةٌ من سلسلةِ تماسُكِ الدّولة السّوريّة، فإنْ هي ضَعُفَتْ أو كُسِرَت، تقطّعتِ السّلسلةُ جميعها، وانهارَ الوطنُ المحتاج إلى تكاتُفِ جميعِ أبنائِهِ وأطيافِهِ، ليقف صامدًا في وجهِ التّحدّيات.
فلا أملَ حقيقيّ بالتّغيير المنشود دونَ دمجِ الطّائفةِ الدّرزيّةِ في مؤسّسات الدّولة السّوريّة المدنيّة، كغيرها من باقي الطّوائفِ والمجموعاتِ بغير استثناء، إذ كانَ احترامُ الخصوصيّات وضمان الحُريّات وعلى رأسها الحريّة الدّينيّة، هي أُولى ما تنصُّ عليه المواثيق الدّوليّة، ويُنادي به كلُّ عاقلٍ ذي فكرٍ ومسؤوليّة.
عيونُنا من هنا من حطّين المباركة، ترنو هذا المساء كما في كل يومٍ، نحو السّويداء وإقليم البلّان ومنطقة جرمانا وجبلِ السّمّاق، وأنظارُنا ترقُبُ ما ستؤولُ إليه المستجدّاتُ والأوضاع، راجين كلّ الرّجاء أنْ نرى شمسَ سوريا تشقُّ غطاءَ ظُلمَتِها، وتنهضُ بعزمٍ بعدَ طول انتظار لتستعيد ازدهارَها وعزَّتها، مع حفاظِها على نسيجها المجتمعيّ والدّينيّ المترابط، الّذي يذكرّنا بواقعِ ما تحملُهُ فسيفساءُ بلادِنا المقدّسة، من تنوُّعٍ بشريٍّ وإنسانيّ بديعِ الصّورةِ والجمال.
لا شكّ أنّ هذا الاجتماع المُبارك الّذي نُحييه اليوم معًا بعد طولَ انتظار، يشجّعُنا ويزيدنا إصرارًا وإلحاحًا للاستزادةِ من بذلِ الجهود والدّعاء، لتيسير مثل هذه اللّقاءات الدّينيّة الإنسانيّة بين أبناء طائفتنا في بلادنا وفي بلاد الشّرق الأوسط وخاصّةً في سوريا ولبنان، ضمانًا لحقوقنا كما هو الحال مع باقي الطّوائف في المنطقة، بممارسة طقوسِنا الدّينيّة وزيارةِ أماكننا المقدّسة، وملاقاة إخواننا وأهلنا الّذين تربطُنا بهم علاقاتُ القرُبى والإيمان ووحدةُ المسار والمصير.
من هنا، وببركةِ صاحب هذا المقام سيّدنا شعيبٍ خطيبِ الأنبياء عليه السّلام، نرفعُ إلى المولى عزّ وجلّ أيادينا بصدقِ النّوايا وصفاء السّرائر، حامدين شاكرين على ما أجزلَ من نعمةٍ بتيسير هذا اللّقاء وتوفيقِ هذا الاجتماع، داعين برفعِ أرزاء الحُروب والمصاعبِ والمظالمِ عن شعوب ودول العالم أجمع، وبكسر القيود وفتحِ الحدودِ أمام السّلام العادل المنتظر.
هذه هي رسالةُ الطّائفة الدّرزيّةِ منذ قديم الزّمان، وهذا هو نهجُنا الدّاعي دائمًا إلى التّلاحُم والتّراحُم، فنحنُ قومٌ إذا عاهَدْنا صدَقْنا، وإذا خوصِمْنا انتصرنا، ثابتين كالأوطاد، متمسّكين بثوابت الأجداد، نحفظُ العهد وننشرُ الودّ، وندعو للوئام والسّلام.
فأهلًا بكُم مجدّدًا أيّها الجمعُ الحبيب، ومرحبًا بتشريفكُم إلى هذا المقامِ الأنور الرّحيب. اجتمعنا على الخيرات فطابتْ نكهةُ الأوقات، وتآلَفَت القلوب وراقتْ فزالتْ بيننا المسافات.
فأهلاً بكم أهلًا وزيارةً مقبولة للجميع..

