مسيرة حياة حافلة بالعطاء والإنجازات.. بصمة لا تُمحى في تاريخ الدّروز..
زعيم، عضو كنيست سابق، رئيس ومؤسّس بيت الشّهيد الدّرزيّ، حائز على جائزة دولة إسرائيل ومن أركان “العمامة”

31 تموز 1927 – 9 شباط 2025
بقلوب يعتصرها الحزن والأسى، وبعيون دامعة ودّع سكّان دالية الكرمل ومشايخ وقيادات وأبناء الطّائفة الدّرزيّة وقيادات ومواطنو دولة إسرائيل مؤخّرًا هامة من هامات وشخصيّات الطّائفة الدّرزيّة البارزين في البلاد عضو الكنيست السّابق ومؤسِّس ورئيس مؤسّسة بيت الشّهيد الدّرزيّ المرحوم أمل نصر الدّين الّذي كان ركنًا هامًّا من أركان الطّائفة الدّرزيّة ودولة إسرائيل والّذي حقّق في مشوار حياته العريض سلسلة من الإنجازات المحوريّة والمهمّة للغاية.
ويُعتبر الرّاحل أمل نصر الدّين من الشّخصيّات البارزة في المجتمع الدّرزيّ في إسرائيل، حيث لعب دورًا محوريًّا في المجالات السّياسيّة، العسكريّة والاجتماعيّة طوال حياته، وسعى إلى تحسين أوضاع الطّائفة الدّرزيّة وتعزيز مكانتها داخل الدّولة وخارجها، سواء من خلال مشاركته في الجيش وسلك وأذرع الأمن ونشاطه السّياسّي، أو عبر تأسيسه للعديد من المؤسّسات الاجتماعيّة الّتي خدمت وما زالت تخدم المجتمع.
ومنذ شبابه، كان المرحوم أمل نصر الدّين شخصيّة طموحة ذات رؤية واضحة، حيث كرّس حياته لخدمة أبناء طائفته ودولته، وعمل بلا كلل لتعزيز مجال التّعليم وتمكين الشّباب وتخليد ذكرى الجنود الدّروز الّذين سقطوا أثناء خدمتهم العسكريّة انطلاقًا من إيمانٍ عميق أن التّغيير لا يأتي فقط من خلال السّياسة، بل أيضًا من خلال بناء مؤسّسات قويّة تخدم المجتمع وتضمن استمراريّة التّطوّر. في هذا المقال، سنتناول سيرة حياته، أبرز محطّات مسيرته، وإنجازاته الّتي جعلت منه شخصيّة مؤثِّرة جدًا على مدار عقود.
البدايات والنّشأة:
وُلد الرّاحل أمل نصر الدين عام 1927 في قرية دالية الكرمل الواقعة بجوار مدينة حيفا على جبل الكرمل في شمال إسرائيل لعائلة نصر الدّين العريقة والمعروفة. منذ صغره برز بذكائه وطموحه ممّا دفعه للبحث عن فرص تمكِّنه من إحداث تغيير حقيقيّ في مجتمعه، ونشأ في بيئة محافظة تحمل القيم الدّرزيّة الأصيلة، والّتي كانت بمثابة الدّافع الأساسيّ وراء التزامه العميق بخدمة أبناء طائفته. وقد كان نشطًا في مجتمعه وهو في مقتبل العمر ومنذ بداية مشواره، وسرعان ما بدأ يبرز كقائد طبيعيّ يمتلك القدرة على التّأثير والإقناع، ممّا أهّله لاحقًا لدخول مجالات القيادة على مستوى أوسع.
المسيرة العسكريّة والمشاركة في الجيش:
مع إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، التحق المرحوم أمل نصر الدين بالجيش الإسرائيليّ، حيث خدم في عدّة وحدات وكان له دورًا بارزًا في تمثيل الطّائفة الدّرزيّة داخل المؤسّسة العسكريّة، ومن أبرز مساهماته العسكريّة:
– المشاركة في العمليّات الدّفاعيّة الأولى للدّولة الوليدة آنذاك، حيث كان جزءًا من الجهود المبذولة لدمج وانخراط الدّروز في المؤسّسة الأمنيّة.
– العمل على تحسين ظروف خدمة الجنود الدّروز، وضمان حصولهم على حقوقهم الكاملة ضمن جيش الدّفاع الإسرائيليّ.
– بذل كافّة الجهود لتعزيز العلاقة بين الطّائفة الدّرزيّة والقيادة العسكريّة الإسرائيليّة، والعمل الفعّال والمساهمة في تحسين مكانة الدّروز داخل الدّولة.
بعد سنوات من الخدمة، ترك المرحوم أبو لطفي أمل نصر الدين الجيش ليواصل العمل من أجل خدمة المجتمع من خلال السّياسة والنّشاط الاجتماعيّ.
المسيرة السّياسيّة والانخراط في العمل العامّ:
بعد إنهائه لمسيرته العسكريّة، دخل أمل نصر الدّين عالم السّياسة، حيث انضمّ إلى حزب الليكود وشغل منصب عضو في الكنيست الإسرائيلّي، وقد كان صوته مؤثِّرًا جدًّا داخل البرلمان، حيث ركّز على القضايا الّتي تخصّ الطّائفة الدّرزيّة وسعى إلى تحسين ظروفها في مختلف المجالات، ومن أبرز إنجازاته السّياسيّة:
– ممارسة الضّغوط من أجل تحسين البنية التّحتيّة في القرى الدّرزيّة.
– العمل على تعزيز ورفع ميزانيّات التّعليم والصّحّة في المجتمع الدّرزيّ.
– الدّفاع عن حقوق الجنود الدّروز الّذين خدموا في الجيش، والتّأكُّد من حصولهم على جميع الامتيازات المستحقّة.
وخلال فترة خدمته في الكنيست التي استمرت 12 عامًا، برز تأثيره الواسع على الحلبة السّياسيّة، هذا التّأثير الكبير استمرّ من خلال عمله الاجتماعيّ ومؤسّساته العديدة أيضًا.
النّشاط الاجتماعيّ وإقامة المؤسّسات
لم يقتصر تأثير الرّاحل أبو لطفي أمل نصر الدّين على المجال السّياسيّ والعسكريّ فقط، بل كان له حضور قويّ في العمل الاجتماعيّ، حيث كرّس جزءًا كبيرًا من حياته لخدمة المجتمع الدّرزيّ وتعزيز مؤسّساته. لقد أدرك مبكِّرًا أنّ التّقدّم الحقيقيّ لأيّ مجتمع لا يتحقّق فقط من خلال القوانين والسّياسيّة، بل يحتاج أيضًا إلى بناء مؤسّسات تدعم التّنميّة الاجتماعيّة والثّقافيّة والتّعليميّة وبضمنها:
1. مؤسّسة بيت الشّهيد الدّرزي ّلتخليد ذكرى الجنود الدّروز:
تُعدّ هذه المؤسّسة واحدة من أبرز إنجازات المرحوم أبو لطفي أمل نصر الدّين في المجال الاجتماعيّ، خصوصًا وأنّ لها دوراً محوريًّا في الاعتراف بدور وبتضحيات الجنود الدّروز الّذين خدموا في الجيش الإسرائيليّ، ومن أهدافها:
– تخليد ذكرى الجنود الدّروز الّذين سقطوا خلال خدمتهم في جيش الدّفاع.
– تقديم الدّعم النّفسيّ والاجتماعيّ لعائلات الشّهداء من الجنود الدّروز.
– إنشاء نصب تذكاريّة في القرى الدّرزيّة لإحياء ذكرى الشّهداء.
– تنظيم فعّاليّات سنويّة تشمل لقاءات مع أسر الشّهداء، وإقامة احتفالات تكريميّة بحضور مسؤولين وشخصيّات بارزة.


2. دعم التعليم والثقافة في المجتمع الدرزي
انطلاقًا من إيمانه الرّاسخ بأنّ التّعليم هو مفتاح التّقدّم، عمل الرّاحل أمل نصر الدّين جاهدًا على تحسين النّظام التّعليمّي في القرى الدّرزيّة، ورفع مستوى المؤسّسات التّعليميّة، ومن أهمّ مشاريعه في هذا المضمار:
– تأسيس مدارس حديثة ودعم إنشاء مدارس جديدة في القرى الدّرزيّة، وتحديث المناهج الدّراسيّة لتشمل مواضيع حديثة تلبّي احتياجات العصر.
– تقديم منح دراسيّة حيث أطلق برامج لدعم الطّلاب الدّروز المتفوِّقين لمساعدتهم على استكمال تعليمهم الجامعيّ داخل إسرائيل وخارجها.
– إنشاء مراكز ثقافيّة في القرى الدّرزيّة، تهدف إلى تعزيز الوعي الثّقافيّ والتّاريخيّ، وتشجيع الشّباب على الانخراط في الأنشطة الفكريّة والاجتماعيّة.
3. تمكين الشّباب الدّرزيّ والاستثمار في الجيل القادم
لقد كان أبو لطفي أمل نصر الدّين يرى في شريحة الشّباب مستقبل الطّائفة الدّرزيّة، ولهذا السّبب ركّز جهوده على إطلاق برامج ومبادرات تهدف إلى تمكينهم ودعمهم في مختلف المجالات والبرامج أهمها إقامة الكلية قبل العسكرية “كيرم إيل” لتحضير الشباب للخدمة العسكرية من خلال تزويد الطلاب فيها بالمعرفة والمهارات اللازمة للإنخراط في صفوف جيش الدفاع، هذا بالإضافة الى الدراسة الأكاديمية والحياة ضمن مجموعات والعمل الجماهيري الهادف الى تعزيز المجتمع المحلي.برامج التّدريب المهنيّ حيث أنشأ مراكز تدريب لتعليم الشّباب مهارات مهنيّة تساعدهم على دخول سوق العمل.
حياته الشّخصيّة
خلال مسيرة حياته العريضة تعرّض المرحوم أبو لطفي أمل لثلاثة أحداث مأساويّة كبيرة:
– وفاة ابنه البكر لطفي (23 عامًا) خلال خدمته العسكريّة عام 1969.
– وفاة حفيده لطفي (38 عامًا) خلال خدمته العسكريّة في عمليّة الرّصاص المصبوب 2008.
– اختفاء ابن آخر دون أن يُعرف مكان تواجده.
رغم هذا الفقد الكبير وانشغاله في العمل السّياسيّ والاجتماعيّ، لم يغفل أمل نصر الدّين قطّ دوره كأب وزوج، حيث كان رجل عائلة بامتياز يولي اهتمامًا كبيرًا لأسرته، ويعتبر أنّ العائلة هي الأساس لأيّ نجاح في الحياة. لقد كان يؤمن بأنّ دعم الأسرة هو ما يساعد الإنسان على تحقيق أهدافه، وقد حظي بدعم كبير من أفراد عائلته طوال مسيرته، وقد عُرف باحترامه العميق للعلاقات العائليّة، وتمسّكه بالقيم التّقليديّة الّتي تميّز المجتمع الدّرزيّ.

دور أبو لطفي في خدمة المقامات والخلوات
لعب الرّاحل أمل نصر الدين دورًا محوريًا في حماية أراضي المقامات الدّينيّة للطّائفة الدّرزيّة وتثبيت ملكيّتها القانونيّة، ومن أبرز إنجازاته في هذا المضمار، تسجيل مقام النّبي سبلان (ع) و212 دونمًا محيطة به باسم الوقف الدّرزيّ في حرفيش، بعد صراع قانونيّ مع عائلة فاعور، حيث نجح في تقديم وإبرام اتّفاقيّة رسميّة موقّعة من قِبل الوزير أريئيل شارون والحكومة، ممّا أدى إلى صدور قرار قضائيّ لصالح الطّائفة الدّرزيّة بهذا الشّأن الهامّ. كما ساهم في تثبيت ملكيّة مقام النّبيّ شعيب (ع) وتوسيع مساحته إلى 350 دونمًا بدعم من نائب رئيس الحكومة دافيد ليفي الّذي قام بزيارة خاصّة للمقام بعد أن قام المرحوميْن سيدنا الشّيخ أمين طريف (ر) وعضو الكنيست السّابق أمل نصر الدّين بزيارته في منزله وقدّما له دعوة لزيارة المقام الشّريف، إنّ هذا النّشاط الواسع والعمل الجبّار والجهود الكبيرة الّتي قام بها في حينه المرحوم أمل نصر الدين تجسّد التزامه العميق في الحفاظ على قدسيّة المقامات وتأمين حقوق الطّائفة. أمّا في موضوع الخلوات، فقد ساهم الرّاحل أمل نصر الدّين سنة 1989 في تحقيق مطلب تعبيد شارع خلوات البيّاضة في حاصبيا، وذلك من خلال تنسيقه بين فضيلة الشّيخ أمين طريف (ر)، ونائب رئيس الحكومة دافيد ليفي، ووزير الدّفاع إسحاق رابين. لتأمين تمويل مشترك من الوزارتيْن لتنفيذ المشروع.

دور أبو لطفي مع دروز لبنان

لقد قام المرحوم أبو لطفي أمل نصر الدّين بدور محوريّ في دعم دروز لبنان خلال الحرب الأهليّة، مركّزًا على حماية وحدتهم وتعزيز مكانتهم في وجه الانقسام والخطر. وقام بزيارة جريئة إلى لبنان عام 1981، وسط ظروف أمنية خطيرة، والتقى بزعماء الطّائفة هناك، ومن أبرزهم الأمير مجيد أرسلان، الشّيخ محمد أبو شقرا، وقحطان بك حمادة، بهدف الوساطة وعقد مصالحة داخليّة بين الزّعامات الدّينية والسّياسيّة الدّرزيّة المتنازعة. وبفضل علاقاته السّياسيّة، استطاع أمل نصر الدّين الحصول على دعم من رئيس الحكومة الإسرائيليّة مناحيم بيجن لمنع جمع السّلاح من دروز لبنان، بل وتزويدهم به إذا لزم الأمر، ممّا ساعد على تعزيز أمنهم في ظلّ الحرب. كما نجح في التّنسيق لعقد “الصلحة الكبرى” بين القيادات الدّرزيّة اللّبنانيّة، عبر تنظيم وفد رسميّ ضمّ 21 عضوًا من مشايخ ووجهاء دروز إسرائيل، ما ساهم في تهدئة التّوتّر وتوحيد الصّفّ الدّرزيّ في لحظة مصيريّة. وقد اتّسم دوره بالشّجاعة والحكمة والقدرة على الربّط بين القيادة السّياسيّة في إسرائيل والواقع الطّائفيّ الحسّاس في لبنان، ممّا جعل تدخُّله تاريخيًّا في الحفاظ على كيان الطّائفة الدّرزيّة في لبنان.

أبو لطفي أمل.. إرث غنيّ من العطاء والتّغيير..
لم يكن الرّاحل أمل نصر الدّين مجرّد سياسيّ أو قائد عسكريّ، بل كان شخصيّة اجتماعيّة مؤثِّرة كرّست حياتها لخدمة المجتمع الدّرزيّ. لقد استطاع كما أسلفنا أن يحقِّق إنجازات كبيرة في مجالات التّعليم، تمكين الشّباب، وتخليد ذكرى الجنود الدّروز، ممّا جعل إرثه خالدًا حتّى بعد وفاته.
ومن خلال المؤسّسات الّتي أسّسها والمشاريع الّتي قادها، ترك أبو لطفي أمل نصر الدّين بصمات لا تُمحى على المجتمع الدّرزيّ في إسرائيل. إنّ جهوده لم تقتصر فقط على تحسين حياة أبناء الطّائفة الدّرزيّة، بل ساهمت في بناء جسر من التّواصل والتّفاهم بين الدّروز وبقية مكوِّنات المجتمع الإسرائيلّي، وكذلك في تعزيز مكانتهم في الدّولة، وتشجيعهم على لعب دور أكثر فعّاليّة في المجتمع. وتُعتبر مسيرته نموذجًا يُحتذى به في القيادة، العطاء، والإصرار على تحقيق الأهداف رغم الصّعوبات، وعليه سيظلّ إرثه ملهمًا للأجيال القادمة الّتي ستواصل المسيرة الّتي بدأها، وحاضرًا من خلال المؤسّسات الّتي أسّسها، والقوانين الّتي ساهم في تمريرها، والقيم الّتي نشرها بين أبناء الطّائفة الدّرزيّة والمجتمع الإسرائيليّ.
وعلى خلفيّة كلّ ما تقدّم كان من الطّبيعيّ والمستحقّ أن يُكرّم ويحصل على العديد من الجوائز ومنها:
– إيقاد شعلة تكريمًا له في حفل يوم استقلال دولة إسرائيل في العام 2005.
– منحه جائزة إسرائيل لأصحاب الإنجازات الاستثنائيّة في العام 2023.
جنازة المرحوم أبو لطفي أمل نصر الدّين:
أقيمت مراسم جنازة أبو لطفي في مسقط رأسه دالية الكرمل في التّاريخ الموافق 10 شباط 2025 بمشاركة آلاف المشيِّعين من الزّعماء والقادة في إسرائيل والمشايخ الأجلّاء وأبنا الطّائفة الدّرزيّة وممثّلين عن كافّة الطّوائف الأخرى في البلاد وقد ألقيت العديد من الكلمات المعبِّرة والمؤثِّرة خلال مراسم الجنازة:
كلمة رئيس الدّولة يتسحاق هرتسوغ :
“هذا اليوم هو يوم حزين جدًا للطّائفة الدّرزيّة – وللمجتمع الإسرائيليّ بأسره حيث فقدنا فيه قائدًا عظيمًا، قائدًا بمقياس تاريخيّ – صديقنا المحبوب أمل نصرالدّين رحمه الله. ليس في كلّ يوم نودّع شخصيّة كانت واحدة من أعظم مهندسي الشّراكة الإسرائيليّة، وبضمنها الشّراكة اليهوديّة-الدرزيّة؛ شخصيّة قامت ببناء هذا التّحالف بأيديها، لا بل جسّدته بفخر وألم، في مسيرة حياته وفي حياة عائلته الّتي أسّسها بكلّ فخر واعتزاز.
في الواقع، قصّة حياة مَن قام بإيقاد شعلة الاستقلال، الحائز على جائزة إسرائيل وعضو الكنيست السّابق أمل هي قصّة ملهمة ورائدة، قصّة قيادة شجاعة وابتكار، قصّة رؤية ديناميكيّة بعيدة المدى، قصّة إحساس بالرّسالة الكبيرة، وعمل دؤوب ومتواصل من أجل الطّائفة الدّرزيّة في إسرائيل والمجتمع الإسرائيليّ ودولة إسرائيل.
عندما سمع أمل إعلان استقلال دولة إسرائيل، الّذي وُجِّه إلى سكّان البلاد النّاطقين بالعربيّة، بحيث تمّت دعوتهم، وأقتبس: “للمشاركة في بناء الدّولة على أساس المواطنة الكاملة والمتساوية”، أخذ على عاتقه تحقيقها بما في ذلك المشاركة الكاملة في بناء الدّولة والمواطنة الكاملة والمتساوية.
لم يكن أمل من روّاد التّجنيد في الجيش الإسرائيلي فحسب، بل ساهم مساهمة حاسمة في دمج أبناء الطّائفة الدّرزيّة في الجيش، سواء على مستوى التّجنيد والاندماج في القيادة العسكريّة، أو على مستوى التّعليم، وتخليد الذّكرى، والنّشاط المجتمعيّ الّذي أدّى إلى ارتفاع معدّلات التّجنيد التّي نعرفها ونثمّنها عاليًا اليوم.
وبفضل أسلوبه الفريد والحاسم، نجح أمل في تحقيق إنجازات استثنائيّة للطّائفة الدّرزيّة خلال مسيرته العامّة، بدءً من المستوى المحليّ ووصولًا إلى الكنيست الإسرائيليّ. بالنّسبة له لم يكن هناك مكان لأيّ التباس فالشّراكة تعني شراكة، والمساواة تعني مساواة. لقد كان يرى في المواطنين الّدروز في إسرائيل شركاء كاملين في واجب الدّفاع عن الوطن، وبنائه وتطويره وطالب وبحقّ لا لُبس فيه بالمساواة الكاملة في الحقوق للطّائفة الدّرزيّة.
دفع أمل الثّمن الأغلى مرّتيْن من أجل حلف الحياة الإسرائيليّ، بفقدان ابنه، الرّقيب أوّل لطفي أمل نصر الدّين، وبعد ما يقارب أربعة عقود، بفقدان حفيده الّذي حمل تيمّنًا بخاله البطل نفس الاسم، الرّقيب أوّل لطفي نصر الدّين. وبقوّة نفسيّة هائلة لا يمكن تصوّرها، حوّل أمل الألم والأسى إلى مزيد من العطاء والعمل. أحد آخر المشاريع الّتي عمل عليها كان هنا، في المكان الّذي سعى إلى إقامة بيت “يد لبنين الدروز” فيه، هذا المشروع الّذي كان من قادته في الرّؤية والعمل.
لقد التقيت بأمل مرّات لا تحصى خلال سنواتي في العمل العامّ، بل وقبل ذلك – في الأيّام الّتي كان فيها صديقًا مقرّبًا لوالدي حاييم هرتسوغ، الرّئيس السّادس لدولة إسرائيل. حتّى في العام الماضي، كان لي مع أمل شرف زيارة طلّاب “الكلّيّة قبل العسكريّة كيرم إيل”، والوقوف عن كثب على ما يتمتّع به الجيل الشّاب الحكيم، المليء بالقيم والدّوافع للخدمة العسكريّة الهادفة، والمساهمة الاجتماعيّة هذا الجيل الّذي تربّى على يد أمل دون شكّ.
وفي لقاءاتي مع أمل، الّذي كان آخرها منذ فترة قصيرة فقط، أذهلتني الطّريقة الدّيناميكيّة الّتي استمرّ بها حتّى في سنّه المتقدِّم والّتي تميّزت بحيويّة ونشاط ملهم، ورغبة دائمة في تحقيق المزيد من الخير، والعمل والتّأثير لصالح شباب الطّائفة الدّرزيّة، الجنود المسرّحين، النّساء، الشّباب، من أجل جنود الجيش الإسرائيليّ والمجتمع الإسرائيليّ ككلّ.
أفراد العائلة الأعزاء، إخوتي وأخواتي من الطّائفة الدّرزيّة، هذا يوم حزن عميق وألم شديد على رحيل قائد مهمّ، ولكن إلى جانبه هناك أيضًا فخر عظيم: فخر بأننّا كناّ محظوظين بوجود أمل بيننا، والاستمتاع لسنوات طويلة جدًّا بطاقته اللامحدودة، وحبّه العميق للإنسان، واهتمامه الصّادق بمستقبل الدّولة والمجتمع.
لا يسعني إلّا أن أغمر، عائلة نصر الدّين العزيزة، في هذه اللّحظة المؤلمة، وأدعو أن يكون تراث أمل نصر الدّين العظيم عزاءً لكم.
كرئيس لدولة إسرائيل، وباسم دولة إسرائيل، وباسم هذا الحشد الهائل الّذي اجتمع هنا اليوم إجلالاً لك أمل، أريد أن أقول لك شكرًا عظيمًا شكرًا على القيادة والخدمة، شكرًا على الرّؤية وبالطّبع على العمل. ليس من قبيل الصّدفة أن أمل، الّذي يعني اسمه “الأمل”، يُدفن اليوم في المكان الذي عاش فيه نفتالي هرتس إمبر مؤلف كلمات النّشيد الوطنيّ الخالدة: “لم نفقد أملنا”،
ذلك الأمل الّذي زرعه أمل في هذا المكان، من خلال إرثه المجيد وأبنائه، وتلاميذه، وطلّابه الّذين تركهم وراءه، سيبقى معنا إلى الأبد. في هذه اللّحظة الصّعبة للمجتمع الإسرائيليّ بأسره، أبتهل إلى الله أن نحظى بالحكمة للسّير في طريق المبادرة، وبناء الجسور، والعمل، والشّراكة، والمساواة الّتي غرسها فينا أحد أعظم القادة الّذين نشأوا على هذه الأرض. معكم، أرفع الّصلاة وأطلق نداءً عميقًا من أجل عودة جميع إخواننا المختطفين المحتجزين لدى المجرمين القتلة، حيث يتعرّضون لتعذيب وحشيّ غير إنسانيّ. علينا استكمال جميع مراحل الصّفقة وإعادتهم إلى الوطن – حتّى آخر واحد منهم. وأصلّي لشفاء الجرحى في الجسد والرّوح، وبالطّبع لنجاح وسلامة جنود الجيش الإسرائيليّ وقوات الأمن الّذين كان أمل يهتمّ بهم طوال حياته. لتكن ذكر ى أمل نصر الدّين مباركة ومصانة في قلب دولة إسرائيل إلى الأبد”
كلمة الرّئيس الرّوحيّ للطّائفة الدّرزيّة سماحة الشّيخ موفّق طريف:
“بسم الله الرّحمن الرّحيم والحمدُ لله ربّ العالمين
سبحانَ من جعل علمَ المواقيت في قبضةِ حُكمِهِ وقَضاه، وأدار كأسَ الموت على سائر خلائِقِهِ وبراياه، متفرّدًا عنهم بالدّيمومةِ الأزليّة والبقاء، والدّوام والثّناء، لا إلهَ غيره ولا معبودَ سواه.
فخامة رئيس الدّولة السّيّد بوجي هرتسوغ، مشايخنا الأجلّاء الأفاضل، عائلة نصرالدّين الأكارم في دالية الكرمل وكسرى، المشيّعون الكرام من كافّة البلاد والمناطق. بقلوبٍ محزونةٍ شجّية، ونفوسٍ بحُكم الله راضيةً مرضيّة، نجتمعُ اليوم لنشيّع جثمان فقيدِ المجتمعِ والطّائفةِ والدّولة، وواحدًا من أعمدةِ القيادة والزّعامةِ الذّهبيّة في تاريخ الطّائفةِ الدّرزيّةِ في البلاد، المغفور لهُ عضو الكنيست السّابق ومؤسّس منظّمة ياد لبانيم للشّهداء الدّروز الصّديق أبا لُطفي أمل نصرالدّين، بعد ثمانيةٍ وتسعينَ عامًا من الإنجازاتِ والتّضحياتِ والعطاء منقطعةِ النّظير.
خلال حياتِهِ الّتي قضاها في رسمِ الرّؤيا لتعزيز أواصر التّعايش في الدّولة، سعى فقيدنا الرّاحل بكدّ وجدّ من أجل تثبيت مكانة الطّائفة الدّرزيّة في البلاد، والمطالبة بحقوقها من خلاله مناصبه الهامّة الكثيرة، وخاصّة بعد انتخابه كعضو كنيست ناشطٍ وفعّال، حيث صبّ كامل قُدراتِهِ من أجل سنّ بعضٍ من القوانين والقرارات التّاريخيّة الّتي ركّزت على مصالح الطّائفة في مختلف المجالات، وخصوصًا في مساواة الحقوقِ وفتح سوق العمل ودعمِ التّربيةِ والتّعليم، ليُصبحَ صاحبَ الكلمة المسموعة والشّخصية المقدّرة أمام صانعي القرار، الّذين رأوا فيه رجلَ الأفعال لا الأقوال، وصاحبَ المواقف الثّابتة الشّجاعة الّتي تتحطّم عندها جميعُ المصالح والمناصب والألقاب، لامسين منهُ دماثَةَ الأخلاق وتواضُعَ النّفس، وقوّةَ العزيمةِ والإصرار.
على هذا النّهج القياديّ الغيور، استمرّ فقيدُنا الكريم أبو لُطفي في وضع بصماتِ نجاحِهِ الخالدةِ في كلّ محطّةٍ من محطّات الحياة، مقابلًا امتحاناتِ القدرِ الصّعبة بالصّبر الحَسَن الجميل، إذ كُتب له أنْ يختبرَ تجربة الثّكل لأكثر من مرّة، بين نجلٍ وحفيدٍ، ليثبتَ أنّهُ أقوى من الهزيمة وأقرب إلى الانتصار، مستمرًّا بكلّ ما أوتي من طاقةٍ وإيمان لبذل الخير للغير وتحقيق مزيدٍ من العطاء والنّجاحات.
وقدْ حوّلَ فقيدنا الرّاحل تجربةَ الثّكلِ والألم، إلى خطّة مُزهرةٍ من العملِ والأمل، ليقوم بإنشاء مشروعا مهمًّا للوسط الدّرزيّ في البلاد، وهو إقامة بيت “ياد لبانيم” لتخليد ذكرى الشهداء الدّروز، فاتحًا أبواب المركز أمام جميع الأهالي والعوائل الّتي عانت هذه التّجربة المريرة، عونًا لهم على تخطّي الأزمةَ وتحصيل كافّة الحقوق أمام الجهات المختصّة، ليتلوهُ بعدها فصلٌ آخر من إنشاء الكّليّة التّحضريّة “كيرم-إيل” والّتي خرّجتْ العديد من الجنود والأكاديميّين والضّباط الدّروز أصحاب الأثر في أيامنا هذه.
في هذا الموقف الحقّ، نستذكرُ متأثّرين ما جمعنا مع الأخ أبي لطفي من علاقات أخوّة وصداقةٍ قديمة، وما انخرط في ذهننا من زياراته الكثيرة الّتي قام بها إلى بيت جدّي سيّدنا الشّيخ أبي يوسف أمين طريف رحمه الله، مستعيدين ذكريات ما سمعناه شخصيًّا من سيّدنا الشّيخ من تقديرهِ لمساعي راحلنا الكريم من أجل كرامة ومصلحة الطّائفة الدّرزيّة، وما لهُ من بصماتٍ تاريخيّة في بلادنا وفي لبنان، خلال الثّمانينات من القرن الماضي إبّان الحرب الأهلّية هناك. كلّ هذا، إلى جانب دأبِهِ المشكور على تحصيل ميزانيّاتٍ وإقامة مشاريع في القرى المعروفيّة ودعم المقامات المقدّسة في البلاد، وعلى رأسها رصد ميزانيّة قيّمة أثناء زيارةٍ قام بها فقيدنا الراحل برفقةِ جدّي سيّدنا الشّيخ إلى وزير الإسكان آنذاك دافيد ليڤي قبل حوالي الأربعين عام، لصالح ترميم وتوسيع وتعبيد قسم من السّاحة الرّئيسيّة لمقام سيّدنا النّبيّ شعيب (ع) في حطّين، إضافة إلى السّعي في تحصيل وتوسيع أراضي وقف مقام النبي سبلان عليه السّلام في حرفيش.
عليه، وفي حضرةِ هذا المشهدِ المؤثّر الّتي نودّعُ فيهِ هذه الأيقونة القياديّة الشّامخة، نتقدّم بخالص تعازينا القلبيّة الصّادقة، إلى عموم أبناء عائلة نصرالدّين العريقة، مخصّين بالذّكر أبناء الفقيد وأقربائِهِ، الّذين سيتابعون بلا شكّ خطواته المشهودة في خدمة المجتمع، ومعهم سائر المعارف والأنسباء والأصدقاء، داعين لكم بالصّبر الجميل بعد هذا الفقد العزيز لرجلٍ كان وسيبقى نبراسًا وهّاجًا وضّاءً في القيادة الممزوجةِ بالإنسانيّة والمسؤوليّة.
نسأله تعالى أن يقدّركم على حُسن الرّضاء في موضع القضاء، وأن يتغمّد فقيدنا الرّاحل الكبير بالرّعاية والعطف والمغفرة، ويعوّضنا عن رحيله بسلامة حضراتكم جميعًا، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.”
كلمة السّيّد إيلي بن شيم، رئيس منظّمة ياد لبانيم:
أمل نصرالدّين – تأبين،
أمل، يا صديقي العزيز، يا معلّمي ومرشدي،
القلب مكسور وحزين.
كنت إنسانًا شجاعًا ورائدًا،
فعلت كلّ ما بوسعك لتعزيز العلاقة بين الطّائفة الدّرزيّة ودولة إسرائيل،
لدعم الشّهداء ولمساندة العائلات الثّكلى.
كنت شخصيّة يُحتذى بها، نموذجًا للقوّة والأمل في وجه الثّكل،
إرثك سيبقى منارةً لنا جميعًا.
نفترق اليوم بألم وبحنين.
رحمك الله
عائلة الفقيد، الطّائفة الدّرزيّة ودولة إسرائيل
يودّعون اليوم قائدًا عظيمًا،
رجل أفعال، رؤية وأمل.
أودّع صديقًا محبوبًا ورفيق درب،
كنت بمثابة أب لي.
أحببتك كحبّ الأبن لأبيه،
والجميع أحبّك.
التقينا لأوّل مرة قبل أكثر من خمسين عامًا،
فترة قصيرة بعد سقوط كوبي، ابني البكر،
لدى وصولي لمؤسّسة “ياد لبانيم”،
كان لديك طريقة خاّصة لتعزيني،
ومنذ ذلك الحين صرنا روحًا واحدة.
كنت لي مُعلّمًا ونموذجًا يُحتذي به،
كنت الموجِّه، الدّافع والمستشار،
وقدّمتَ مساهمة عظيمة لنجاح النّضالات،
من أجل حقوق العائلات الثّكلى.
وزير الدّاخليّة موشيه أربيل خلال زيارة تعزية لعائلة عضو الكنيست السّابق مؤسِّس ورئيس بيت الشّهيد الدّرزيّ أمل نصر الدّين:
“أمل كان شخصيّة مثاليّة، رمزًا للتفاني اللّامحدود والالتزام العميق تجاه شعبه، طائفته الدّرزيّة ودولته. أمل فقد ابنه وحفيده أثناء دفاعهما عن دولة إسرائيل، لكنّه لم ينكسر، بل كرّس حياته لترسيخ وتعزيز الحلف بين الطّائفة الدّرزيّة والمجتمع الإسرائيلّي. إرثه – حلف الدّم وحلف الحياة – سيبقى راسخًا في قلوبنا جميعًا وسيواصل إنارة دربنا، وسيذكرنا دائمًا بقوة الوحدة، التّضامن المتبادَل والّشراكة الحقيقيّة.
قبل سبعة أشهر تمامًا فقط، حظيت بلقاء أمل في بيت “ياد لبانيم” وفي الكلّيّة قبل العسكريّة، لقاء ترك في نفسي انطباعًا عميقًا وسيرافقني طوال حياتي. أتقدّم بأحرّ التّعازي للعائلة الكريمة. اسم أمل، الّذي يرمز إلى الأمل، وإرثه الرّائد سيبقيان محفورين في قلب الأمّة إلى الأبد”.
صور من حفل استلام المرحوم امل جائزة إسرائيل لأصحاب الإنجازات الاستثنائيّة في العام 2023
وهي أعلى وأرفع جائزة رسمية في إسرائيل
تعزية الوزير الّسابق عضو الكنيست حمد عمار:
إنّا لله وإنّا إليه راجعون
ببالغ الحزن والأسى، ودّعنا اليوم أبو لطفي أمل نصر الّدين، رحمه الله – المقاتل، القائد والأب الثّاكل، الّذي مزج طوال حياته بين حبّه للطّائفة الدّرزيّة ودولة إسرائيل. كرّس أبو لطفي، رحمه الله، حياته لخدمة الجمهور وتعزيز حلف الدّم وحلف الحياة بين الطّائفة الدّرزيّة ودولة إسرائيل. شغل منصب عضو كنيست بين الأعوام 1977-1988، وعمل بلا كلل من أجل حقوق أبناء الطّائفة ومن أجل الّدولة بأكملها. كأب وجدّ ثاكل، فقد ابنه وحفيده في سبيل الدّفاع عن الدّولة، وحوّل ألمه الشّخصيّ إلى رسالة عامّة، وقاد مؤسّسة بيت الشّهيد الدّرزيّ بإخلاص لا حدود له.
قبل عام واحد فقط، حصل على جائزة إسرائيل عن مشروع حياته، تكريمًا لمساهمته الهائلة من أجل المجتمع والدّولة – وهي جائزة مستحقّة لرجل كانت حياته كلّها نضالًا من أجل الدّروز ومن أجل إسرائيل.
لقد كان أمل، رحمه الله، شريكًا في الطّريق وصديقًا حقيقيًّا لسنوات طويلة. عملنا معًا من أجل الطّائفة، من أجل تخليد ذكرى الشّهداء، ومن أجل تعزيز مكانة الدّروز في الدّولة. سيبقى نهجه منارة لنا، يرشدنا في نضالنا من أجل جيل المستقبل. رحمه الله.
“الرؤية المستقبلية”
وكان مؤسِّس ومحرِّر العمامة المرحوم الشّيخ سميح ناطور قد كتب سابقًا ما يلي عن المرحوم أبو لطفي أمل نصر الدين في كتاب نشر عام 2010 بعنوان – “تحية.. ووفاء.. إلى أمل نصر الدين”:
عُدتُ قبل أيّام من خارج البلاد حيث التقيتُ هناك بمجموعة من الإخوان من دروز سوريا ولبنان. وقد تحدّثنا عن المعالم الحضاريّة الموجودة عند الطّائفة الدّرزيّة، وتركّز الحديث حول النّصب التّذكاريّ الفخم الّذي أقيم لعطوفة سلطان باشا الأطرش في بلدة القريّا مسقط رأسه. ولا تستغربوا أيّها المشايخ والإخوان، أنّه حتّى إلى هناك وصلت بصمات أمل نصر الدّين. فالحركة الإعلاميّة المكثّفة الّتي رافقت إقامة مؤسّسة الشّهيد الدّرزيّ في دالية الكرمل منذ تأسيسه عام 1981 أدّت إلى حثّ الإخوة الدّروز في الجبل، أن يطالبوا بإقامة صرح تذكاريّ كبير لشهداء الثّورة السّوريّة ولبطولة قائد الثّورة عطوفة سلطان باشا الأطرش، قائلين إنّه إذا كانت حكومة إسرائيل قد فكّرت بتخليد شهدائها فكم حريّ بالحكومة السّوريّة أن تقوم بعمل مماثل لآلاف الشّهداء الدّروز وللتّضحيات الكبيرة التي قدّمتها الطّائفة الدّرزيّة من أجل الاستقلال. وتمّ إنجاز هذا العمل في بلدة القريّا بعد مرور أكثر من ثمانين سنة على قيام الثّورة السّوريّة وبعد مرور 25 سنة على رحيل عطوفة سلطان باشا الأطرش.
وفي نظر الإخوان في الخارج، وهذا ينطبق كذلك على إخوة مسلمين ومسيحيّين، يبرز أمل نصر الدّين كصاحب فكر ورأي ومشاريع سابقة لأوانها، تتخطّى الزّمن وتجرّ وراءها المؤسّسات والوزارات والمكاتب المسؤولة، وهذه نعمة من الله، حيث بعث لنا، سبحانه وتعالى، في هذا العصر العصيب، شخصيّة كأمل نصر الدّين، كي لا تذهب أتعاب وتضحيات هذه الطّائفة الكريمة في البلاد سدى. فأعمال أمل نصر الدّين لا تقتصر على مؤسّسة الشّهيد الدّرزيّ، وعلى عمليّة تخليد الشّهداء ورعاية العائلات الثّكلى فحسب، إنّما تضمّ كتلة شاملة من الأعمال، كان فيها أمل نصر الدّين سبّاقًا ورائدًا وفاتحًا للدّرب وممهّدًا للسّبيل. وقد بدأ في أوائل الخمسينات، عندما غرقت البلاد في نقاط التّقنين وتحديد الحاجيات فبادر أمل، كمقاول، إلى تشغيل 120 عاملًا من أبناء الطّائفة الدّرزيّة خارج القرى، يكسبون رواتبهم بالعمل الجدّ الرّصين. وبكونه كذلك، حافظ على حقوقهم الاجتماعيّة، وأدخل ما يسمّى تأمين الشّيخوخة لكبار السّنّ، بالرّغم من بعض المعارضة. وفي القرية، ألّف قائمة من الّشباب للمجلس المحليّ، نجحت في الحصول على ثلاثة مقاعد من بين تسعة مقاعد، مُدخلًا روحًا جديدة لأجواء القرية، نشعر بنتائجها في أيّامنا هذه. ثمّ ترأّس قسم الجنود المسرّحين في الهستدروت، وعمل على تأمين كافّة المتطلّبات للجنود. ومن يتجوّل في كافّة القرى الدّرزيّة يجد في كلّ قرية حيًّا أو أحياء جديدة تُسمّى “الشيكونات” هذه الأحياء كلّها شهادات دامغة لعمل وسعي أمل نصر الدّين. وفي السّبعينات أدخل الصّناعة إلى القرى الدّرزيّة في الجليل والكرمل، وأصدر المجلّات والكتب في فترة كان الوعي الثّقافيّ عندنا ما زال في مهده. وقد عمل على تأمين حقوق العائلات الثّكلى قبل أن يمتحنه الله باستشهاد ابنه لطفي واستمرّ بعد ذلك بكثافة حتّى اليوم. وعندما تبيّن له أن الحزب الّذي وعده وسار معه لم يفِ بتعهّداته، ترك كلّ الوظائف وكلّ المناصب، وكانت كثيرة، واستقال احتجاجًا على هذه المعاملة، معطيًا بذلك درسًا للجميع. وقد تزامن ذلك بوحي ربّانيّ مع صعود حزب اللّيكود إلى الحكم، وانتُخب أمل للكنيست، ورفض أن يستلم وزارة، كي لا تتقلّص صلاحيّاته، فعمل إلى جانب رئيس الحكومة السّيّد مناحيم بيغن في كلّ المجالات، فاتحًا جميع وحدات الجيش أمام الشّباب الدّروز، مؤمّنا لهم الوصول إلى أعلى الدّرجات بدون أيّ تفرقة، مهتمًّا بالتّعليم الدّرزيّ، عاملاً على تسويات الأراضي، ساعيًا إلى منح المقامات الدّرزيّة ما تستحقّه من الأراضي، ضاغطًا على الحكومة والكنيست أن تساوي القرى الدّرزيّة مع اليهوديّة المجاورة لها، لدرجة أنّه أضرب عن الطّعام أمام مكتب رئيس الحكومة من أجل ذلك. وبعد أن أنهى دوره في الكنيست لم يتوقّف عن العطاء، واستمرّ يعمل ويبذل، فأسّس الكلّيّة العسكريّة التّمهيديّة في مؤسّسة الشّهيد الدّرزيّ، وأسّس مركز أبحاث في البيت، وأسّس غرفة الأدب والكتابة حيث يستطيع أن يعيش كاتب لمدّة في القرية في شقّة أنيقة يكتب ويسرد أعمال الطّائفة الدّرزيّة. وفي كلّ هذا المشوار الطّويل اهتمّ بحلّ المشاكل والعقبات الّتي واجهت الطّائفة الدّرزيّة هو وفضيلة المرحوم الشّيخ أمين طريف وبعده مع فضيلة الشّيخ موفّق طريف، ومع باقي الزّعماء الدّروز ورؤساء المجالس المحليّة، وكبار الموظّفين، وكبار الضّبّاط وأعضاء الكنيست والقضاة، حيث أنّه كان يحقّق الإنجاز بجهوده ويدعم الشّخص المسؤول من الطّائفة لتحقيق وتنفيذ هذا القرار الهامّ واضعًا نصب عينيه رفاهيّة وتقدّم أبناء الطّائفة الدّرزيّة في كلّ المجالات وفي كلّ مكان. أمل نصر الدّين ظاهرة فريدة في الدّولة بأسرها، يقتدى به، يمكن أن نتعلّم منه، ويثبت أنّ كلّ من وضع نصب عينيه خدمة شعبه وأهله وطائفته، فإن الله يدعمه ويوفّقه، خاصّة وأنّه لا أملاك له ولا شركات ولا مصانع، وهو يعتمد فقط على الرّاتب التّقاعديّ الّذي يحصل عليه من الكنيست، فهو بهذا المعنى جدير بالاحترام والتّقدير.
في الختام،
لا يسعنا ونحن نودّع قامة شامخة كالسّيّد أمل نصر الدّين عضو الكنيست السّابق، ورئيس بيت الشّهيد الدّرزيّ إلّا أن ننحني بخشوع أمام ذكراه العطرة، وأمام سيرة رجل نذر حياته لخدمة وطنه ومجتمعه، وظلّ وفيًّا لمبادئه وقيمه حتّى آخر لحظة من عمره.
إنّ رحيل هذا القائد لا يُعد خسارةً لعائلته وأحبّته فحسب، بل فاجعة وطنيّة ومصابًا جللًا لكلّ من عرفه أو تأثّر بعطائه. فقد كان الرّاحل مثالًا نادرًا في النّزاهة والالتزام، ومُناضلًا لا يعرف الكلل في سبيل العدالة، والعيش المشترك، وصون كرامة طائفته ومجتمعه ودولته.
لقد سطّر الفقيد صفحات مشرّفة في ميادين السّياسة والعمل الاجتماعيّ، وأسهم بإخلاص في ترسيخ حضور الطّائفة الدّرزيّة في الحياة العامّة، مؤمنًا أن الوطنيّة الحقّة تتجلّى في العمل، والتّضحية، وخدمة النّاس دون انتظار مقابل. وها نحن أمام هذا الفقد الكبير، نقف بإكبار وإجلال أمام إرثه الغنيّ ومآثره الخالدة، نستودعه في ذمّة الله، سائلين العليّ القدير أن يتغمّده بواسع رحمته، وأن يسكّنه فسيح جنّاته. v
*** شكر خاص للفنان العالمي المصور ربيع باشا من دالية الكرمل على مساهمته المميزة في عدد من الصور الفريدة