الموقع قيد التحديث!

الكلمة نورانيّة تجسيديّة

بقلم الدّكتور رضوان منصور
عسفيا

الصّراع المستديم داخل النّفس بين الأضداد والازدواجيّة مثل النّور والظّلام، الخير والشّرّ الكامنة فيها، ولَّدت الكلمة حاملة أمر باريها ومشيئته. والكلمة في المفاهيم الرّوحانيّة هي وسطيّة وسفيرة القدرة الإلهيّة، تشكِّل حلقة وصل بين العقل والنّفس وبين الطّبيعة المحسوسة والملموسة فبهذا الوصل يكتمِل الوجود وتختلط المعقولات العليا بالمحسوسات السّفلى ويتكوّن وجودًا وحقيقة فعليةً. 

زمنًا طويلًا بقي البحث عن حلقة مفقودة رابطة بين المعقولات وبين المحسوسات في المذاهب الفلسفيّة اليونانيّة، تربط بين الرّوح والمادّة، حتّى أنّهم أدخلوا حلقة أو اثنتين إلّا أنّ البعد بينهما بقي شاسع، إلى حين به أحرز التّقدُّم العلميّ والازدهار الحضاريّ نظرية النّسبيّة الأينشتانيّة (نسبةً إلى العالم الفيزيائي اينشتاين 1879-1955 م) الّتي ربطت بين المادّة والطّاقة، وأثبتت تفاعل كلّ منهما مع الآخر إضافة إلى الرّبط بين الزّمان والمكان والحركة وهذا شكل من أشكال الرّبط بين معقول ومحسوس وتلاحم الزّمان بالمكان والمعقول بالمحسوس. هنا نرى أنّ هناك أسبقيّة للزّمان المعنويّ قديم الأزل عن المكان الماديّ الوجوديّ. فالسّرعة تسبق الزّمن الحاليّ إلى حيِّز مكانيّ أو تعود به إلى الماضي.

شُبّهت الكلمة في بعض الفلسفات بطير له جناح مكان وجناح زمان، أو برسول إلى آذان وإدراك الآخرين لترسيخ التّفاهم فيسود في العقول ويتفاعل معهم وتتحقّق الإفادة والاستفادة. والكلمة تطير بجناحي الزّمان والمكان اللّذان هما إطار كلّ وجود، وقاعدة كلّ موجود. والكلمة هي السّبيل للوصل بين عقليْن أو أكثر وبواسطتها يُؤخذ العلم ويُعطى، فإذا كانت المعرفة غاية الوجود والسّعادة القصوى فالمعرفة تتمّ عن طريق الكلمة كأداة نطق وتعبير، ووسيلة تفاعل بين العقول ووعاء ناقل لكل منقول. وللكلمة مسلكان، مسلك نحو الأعلى يربطها بالعقل مرورًا بالنّفس العاقلة العالمة ويستنير بنورها، والثّاني يربطها بالنّفس الجاهلة فتأخذ من جهلها. فالفيلسوف اليونانيّ القديم فيثاغورس (570-495 ق.م) اعتبر الكلمات     رموزًا تحمل معانٍ وقيم عميقة تؤثّر على النّفس البشريّة. أفلاطون (428-348 ق.م) فيلسوف المثاليّة والجمهوريّة الفاضلة رأى بالكلمات ظلال للأفكار الموجودة في عالم المُثل. أرسطو سلّط الضّوء على أنّ الكلمات هي تعبير للتّفكير المنطقيّ وأداة تواصل فعَّالة بين البشر، تُستخدم لتصنيف العالم ومحاولةً لفهمه.

الكلمة ليس مجرّد وسيلة تواصُل، بل هي قضاء الله وسنّته في الوجود. وهي مفتاح قد يفتح أبواب أقدار مغلقة أو قد يُغلقها. الكلمة روح ساكنة في الحروف، يمكنها أن تتحوّل إلى جسرٍ يمتدّ من حلكة الجهل إلى نور المعرفة، ومن غفلة الوهم إلى يقظة الحقيقة. الفيلسوف هيغل (1770-1831 م) مؤسِّس المثاليّة الألمانيّة، اعتبر بأنّ الكلمة الواقعة هي تجلّي للعقل المطلق أو الرّوح المطلقة في عمليّة تطوريّة متصاعدة ومستمرّة باعتبارها أداة للتّعبير عن الفكر والإدراك، وهي تلعب دورًا حاسمًا في هذه العمليّة. والكلمة أداة حوار، حيث يتمّ من خلالها طرح الأفكار وتطويرها واختبارها وهي وسيلة لتشكيل الواقع نفسه. فمن خلال الكلمات، يتمّ صُنع معنى للعالم، وإنشاء واقعًا اجتماعيًا، وثقافيًا.

 الكلمة إذًا تهدي الإنسان إلى طريق الحقّ. وليست مجرد صدى يدوّي في الفضاء، بل هي زاد العارف وحكمة الفيلسوف، تسمو إلى الحقيقة، أم تحفر قبورَ جهل للأحياء وللأموات. وفي هذا السّياق قال الفيلسوف الألمانيّ نيتشه(1844-1900م): “الكلمات ليست فقط رموز لذكريات بعيدة، إنّما هي المفتاح الّذي يفتح العقول أو يغلق القلوب”. وقد رأى بالكلمات تعبيرًا عن قوّة محرِّكة لا تقتصر على أدوات تواصل، بل قد تكون حتّى كأسلحة لها تأثير على الآخرين. واعتبر ديكارت الكلمات أدوات أساسيّة للتّفكير.

الكلمة هي عهد يقطعه الإنسان على نفسه، وهي وفاء وكرامة واحترام وكبرياء، والتّمسُّك بالكلمة يعني امتلاك السّيادة على النّفس وتهذيبًا لها، وفي هذا قيل “والأعظم من أن يعترف بأخطائه، ألّا ينكر كلمته” كحدّ قول الفيلسوف الصّينيّ كونفوشيوس (551-479 ق.م.). وأضاف بأن الكلمة مرآة الرّوح، تنطق بالأفكار وبالمشاعر الحقيقيّة، مثلما أنّها سلاح ذا حدّيْن، قد تبني وقد تدمِّر في الوقت ذاته، لها قوّة التّغيير وتحريك الجماهير وبناء الحضارات، لها مسؤوليّة وعواقب، وهي فنّ بحد ذاته وأساس للتّواصل، للترّبية، للسُّلطة وللثّقافة ومن أقواله الشّهيرة: “لا تقل شيئًا إلّا إذا كان أفضل من الصّمت”. والتّعبير اللّفظيّ بمثابة اهتزاز يحرِّك منصّة الوجود وفق ذبذباته، به ينقسم البشر القائمون عليه إلى شطريْن، شطر يُنير شعلة نورٍ وشطر يطفئ نوره ويخيِّم عليه وعلى محيطه ظلام. يقول الفيلسوف سقراط (470-399 ق.م) في هذا: “تحدّث حتّى أراك” لم يأتِ هذا القول من باب الصّدفة فالتّعبير والكلمة يشكِّلان مرآة الرّوح ويكشفان عن جوهر الإنسان. والكلمات تحرِّك مشاعر الشّعوب وتسير بها إلى السِّلم أو إلى الحروب وهنا أجاد القول سياقًا الفيلسوف الفرنسيّ فولتير (1694-1778 م) بعباراته بأنّ: “الكلمة تحرِّر العقول كما تُحَرِّر الأوطان”. فهي تُشعل جمرات الثّورات في الصّدور، وتدفع إلى الحراك نحو التّغيير. قد تكون بقوةٍ لا تُقاوم، أو حتّى أنّها قد تُذيب قضبان الحديد وتكسر القيود.

أمّا في سلسلة العلاقات الإنسانيّة والاجتماعيّة المُتداولة فللكلمات والألفاظ وقع سحريّ، قد تنسج بخيوطها روابط وأواصل اجتماعيّة وقد تفكِّكها وتوجِدُ التّنافر فيما بينها. قد تكون كالنّور الّذي يُبدِّد العتمة، ويخترق شقوقًا سادها الظّلام، فتُعيد دفء قلوب كانت قد بردت وتُرمِّم تصدُّعات خلّفتها الأيّام. أمّا القول الجارح، فهو كسهمٍ مسموم يصيب الصّميم ويُسكت سرورًا وضحكات. هناك من وصف الكلمة الصّادقة كغيثٍ يُحيي زهورًا ذابلة، بينما الحروف القاسية كسيفٍ يقطع أوصال التّواصل، تاركًا العلاقات في صحراء وجفاء. وأضيف هنا قول جبران خليل جبران: “الكلمة الطّيّبة شجرةٌ تثمر بالخير”. وتبقى الكلمة وسيلة التّلاقي والتّواصل، محطّ ثقة وجسرًا يربط بين القلوب مهما تباعدت.

ومثلما تغذّي الأم طفلها، تغذّي الكلمات الإنسان، قد تفتّح به ازهارًا وأغصانًا ووريقات الإدراك والمعرفة، فالكلمة ليست مجرّد أصوات، بل هي رسم لخريطة تفكير ونقش لمعالم فهم، وتنبُّؤ لأفكار، ومشاعر، وسلوكيّات. الكلمة المناسبة في السّياق المناسب، كالماء العذب، تروي فضولًا وتدفع إلى عجلة نموّ إدراكيّ، بينما الكلمة الجافّة، كالصّخرة وقعها ثقيل، قد تعيق تدفّق الأفكار وتغلق أبواب التّساؤل والاستفسار. كلّ كلمة تتردّد في الذّهن تضيء نورًا في شبكة خلايا الدّماغ، تربط بين الإدراك الحسّيّ والتّفكير العميق، وترسم مسارًا واضحًا لتفاعل ذاتيّ ومع المحيط، كم بالحريّ حين يكون الحديث مع طفل.

أمّا الفلاسفة المعاصرون فتعدّدت نقاشاتهم حول الكلمة حتّى شملت ربطها بالوعي والتّفكير وآخرون في تشكيل الهويّة والانتماء ثمّ مَن سلّطوا الضّوء إلى أنّ الكلمات تخلق واقعًا اجتماعيًّا. الخلاصة هي أنّ الكلمة كالضّوء يُنير درب الإنسان في بحثه عن الحرّيّة، لها القوّة لترفع من شأنه أو أن تسقطه. والكلمة هي التّجسيد لحقّ استخدام العقل الّذي بحدّ ذاته حرّيّة اختياريّة إنسانيّة. الكلمةُ هي نورٌ في عتمةِ اللّيلِ يُشرقُ، يُحيي النّفوسَ ويفتحُ الأفقَ، تسمو بها المعاني فوقَ قُبَّةِ الأملِ، وتنثرُ الفكرَ في دربٍ قد غُلِقَ. والكلمة تحمل في طيّاتها أبعادًا عميقةً حول الوجود والمعرفة والواقع وهي الرّابط بين عالَم المعقولات وعالم المحسوسات وهي حلقة الوصل والتّواصل بين البشر القائمين في عالم الطّبيعة والمحسوسات.  v

مقالات ذات صلة:

قصّة قصيرة: سقى الله أيامًا مضت!

التفَّ بعَباءته السّوداء الطّويلة، وقد تلوّنت ببعض بُقَعِ الزّيت، وبعضِ غبار الرَّماد الأبيض. فهو لا يستطيع غسلها؛ لأنَّه لا يملِك