
قبل شهرين ونصف رحل عنّا المربي الشيخ سليم داهش معدي، صاحب الباع الطويل دينياً وثقافياً رجل العطاء والعلم، لقد ولد المرحوم في التاسع عشر من شهر كانون الثاني عام 1935 لوالدين موحّدين، تميّزت تلك الفترة بصخب الحياة وبأحداث جسام عصفت بعائلته، عصفاً ادّت في محصّلتها الى فقدانه والده، وكذلك امّه، ولم يبلغ الثانية من عمره بعد. وعاش يتيم الاب والام في آن واحد، فكان للأحداث ابلغ الاثر في بناء شخصيته ومستقبله. تولّت أمر تنشئته عمّته، وما فتئ أن فقدها وهو في السادسة من عمره، اذ انتقل بعدها للعيش مع اخويه المرحومين الشيخ جبر داهش معدي والشيخ حسين داهش معدي حتى زواجه عام 1960.
عين المرحوم في عام 1954 معلماً في مدرسة يركا الابتدائية، وكان من أوائل المعلمين الدروز في البلاد، أخلص في عمله الى ابعد الحدود، تتلمذت على يده أعداد كبيره من الطلاب، وهو يعتبر ثاني معلّم من القرية بعد المرحوم الاستاذ الشيخ مزيد حسن صالح، وأوّل من حصل على شهادة البجروت، وثاني من حصل على الشهادة الجامعية BA. وبعد أن قضى مدّه تسع سنين في التعليم الابتدائي تميّزت بالعطاء اللامحدود ونجاعة العمل والإخلاص، أسندت اليه في الأول من شهر أيلول سنه 1963إدارة مدرسة يركا الابتدائيّة للبنات (أ). تميّزت تلك الفترة بمعوّقات اداريّه وتعليمية يتعذّر حصرها، فقد تصدّرها عدم وجود بنايه مركزيّه واحده، فكان على الطلاب ان يتعلموا في غرف مبعثرة مستأجرة شكّلت إحدى التّحدّيات الجدّيّة لعمليّة التّعليم، وكان التّحدّي الثاني والاهم، هو عدم رغبه الاهالي في تعليم بناتهن على ما تمليه الأعراف في ذلك الزّمان، فقد تسرّب من البنات سنه 1963/64 55 بنتاً وتعلّم 245 بنتاً فقط.
وقد وجدت المعضلتان حلّاً لهما، حيث أقيمت بناية مركزية في العام 1965 بجهود المجلس المحلّي وادارة المدرسة ووزارة المعارف، أمّا التحدي الثاني والأهم، فهو القضاء بالكامل على ظاهرة التسرب للبنات، حيث طبّق قانون التعليم الالزامي على أكمله، وذلك عن طريق رفع الوعي لدى الاهل والعمل على رفع التحصيل العلمي للطلاب.
لقد كان موضوع استكمال الطلاب دراستهم الثانوية أحد أهداف المدرسة، فلتحقيق هذا الهدف السّامي بذلت جهود جبّارة من قبل إدارة المدرسة وطاقم معلميها لنجاح أكبر عدد من الطالبات في امتحانات الثوامن. وتبرّع المعلّمون والادارة بأعداد كبيرة من حصص المساعدة بعد الدّوام المدرسي، كما استقدمت الادارة عدداً من طلاب السّنة الثالثة من جامعة حيفا وبيت هيلل، ليتبرعوا بمئات الحصص أثناء العطلة الصّيفيّة، مما رفع نسبه النجاح الى 85%، اي نجحت 26 بنتاً من أصل 31، وعليه فقد تحرّر الأهل من دفع 4000 ليرة للطالبة الواحدة، فارتفعت نسبة الطالبات اللواتي استكملن دراستهن الثانوية ارتفاعاً كبيراً، فلقد شهد مدير المدرسة الثانوية آنذاك بان الافواج القادمة لمدرسته يتصدّر جميعها، فوج مدرسة يركا (أ) في مستوى التحصيل فاكتسبت المدرسة اسما وشهرة فذاع صيتها ووثق بها الأهلون.
وعملت الإدارة على تحويل المدرسة وحديقتها الى جنّه غنّاء، فغرست ألوان الزهور واشجار الزينة، وأسّست فرقة كشفيّة وأخرى للموسيقى، مع اقامة مكتبة لخدمة الطلاب، فزاد تعلّق الطلاب بمدرستهم، حتّى فضّلوها على بيوتهم.
وفي شهر نيسان عام 1976، أسندت له ادارة المدرسة الثانوية الشاملة – “ألأخوّة” يركا فاستقدم لها كادرا من المعلمين الأكفاء، وأقام فيها داراً لاستكمال واعداد المعلمات، مدّتها سنتان، تخرّجت منها أعداد من المعلمين والمعلمات، حيث حلّت مشكله النقص في مجال التدريس التي عانت منها مدارسنا في تلك الفترة، بالإضافة لمشكله سفر البنات الى مراكز التأهيل خارج القرية.
وبتاريخ 01/09/1978، أسندت له وظيفة التفتيش في المدارس الدرزية، فأشغل هذه الوظيفة حتى خرج للتقاعد بتاريخ 01/11/1995، بعد أن قضى قرابة 42 سنه في دنيا التعليم والادارة والتفتيش.
انتخب رئيساً للجنة الدفاع عن الارض والمسكن في يركا، لدى الطّائفة المعروفيّة، أقيم على أثرها يوم الارض في يركا، وعولجت قضايا تتعلق بالوسط الدرزي.
لقد آمن المرحوم بانّ كل انسان، له من الأغذية يوميّاً، غذاء للروح يناجي فيها ربّه، وغذاء للعقل ملاحة فكريّة يسبر فيها أغوار ما جادت به قرائح عمالقة المفكّرين، وغذاء ثالث للجسد، يزاول فيها أنواع الرّياضة والعمل في الارض.
وفي شهر أيّار عام 1982 قرر التوجه الديني، فاستلم دينه طواعيّة غير مكره، مؤمناً ايماناً راسخاً بالله وكتبه ورسله وأوليائه واليوم الاخر. وكان له ولع شديد بالفلسفة، وبالأخص ما لأساطين الفلسفة الإغريقية، فيثاغورس وأفلاطون وأرسطو وسقراط وأبقراط والاسكندر وغيرهم. وقد طالع في حياته، حسب تقديره، أكثر من ألف مجلّد وكتاب. وبنى مكتبة كبيرة في بيته، وكانت له عدّه مقابلات مع المحطّات الدّاخليّة في يركا والكرمل والمنطقة لاقت استحسان واعجاب غالبية المشاهدين.
وكان واعظاً لإخوان الدين سنين طويله. ودرّس علوم الدين سنة كاملة بمدرسة الاشراق في الكرمل. وألقى محاضرات ومذاكرات عدّه في دور العبادة والمدارس الابتدائية والاعدادية والثانوية في معظم القرى الدرزية، وكذلك في المقامات المقدسة ومراكز ثقافية وتربوية أخرى. واستعد لتأليف كتاب عنوانه ” هويّتك التّوحيديّه ” ليكون موضوعه أهم ما يتميز به دين التوحيد من قيم وأخلاقيات، بها يعرف الموحّد نفسه، وتحدّد له علاقته وواجباته وفروضه اتجاه خالقه وأنبيائه وأهله وعشيرته وسائر الخلق، ليحيا حياة ملؤها السعادة والحبور في الدّارين. وكان المرحوم قد مكث في العام 1998 في خلوات البيّاضة الزاهرة في لبنان وقضى فيها مدّة من الزمن تركز فيها في حفظ المعلوم الشريف.
وله نشاطات اجتماعيّة عديدة في مشاركة جميع الطّوائف في سرّائها وضرّائها، يلقي في كثير منها كلمات تأبينيّة أو مذاكرات قصيرة ومواعظ شتّى. يطلق عليه معارفه وأصدقاؤه لقب “الانترنت” لسعة معلوماته وغزارتها وعمقها.
لاقى وجه ربّه راضيا مسلّما مساء يوم السبت الموافق 07\11\2020 حيث شارك العديد من المعارف والاصدقاء بجنازته المهيبة والاف المعزين الذين أتوا من كل حدب وصوب من جميع الطوائف في البلاد رغم انتشار وباء الكورونا والوضع العام الصعب الذي ساد البلاد، كما وصلت برقيّات تعزية من جبل الدروز ولبنان.