الموقع قيد التحديث!

الخلافة الفاطميّة ونشوء دعوة التّوحيد

بقلم السيّدة سهام ناطور (عيسمي)
دالية الكرمل

 لقد نشأت دعوة التّوحيد في ظلّ الدّولة الفاطميّة، سنة 909م، وكان مؤسِّسها عبيد الله المهديّ، وهو الإمام الإسماعيليّ الّذي ظهر بشمال أفريقيا وقضى على دولة الأغالبة ثمّ عاش في سلميّة في سوريا، إلّا أنّ الخلفاء العبّاسيّين عرفوا بأمره وبحثوا عنه حتّى اضُطر إلى الهرب من سوريا إلى مصر، وفي مصر لبث المهدي فترة ليرى لأيّة جهة يتّجه، لليمن أو لتونس. وكان قد أرسل لليمن داعية من عنده إلّا أنّ هذا الدّاعية فشل في دعوته هناك، بينما لاقت الدّعوة في شمالي إفريقيا، أي في تونس، نجاحّا كبيرًا، وهكذا توجّه المهديّ إلى تونس والإقامة فيها. وبعد أن استقرّ بتونس أسّس مدينة المهديّة حوالي عام 912 ميلاديّ، على شاطئ البحر، مباشرة بالقرب من تونس العاصمة وهو الّذي أشرف بنفسه على بنائها. وأنّه أنشأ على ساحلها دارًا كبيرة لصناعة السُّفن نُقرت في الجبل وتسعمائة سفينة حربية كبيرة، هذا إلى جانب صهاريج المياه، ومخازن الطّعام، والمسجد والقصر والدّواوين ثمّ الأسوار ذات الأبواب الّضخمة الّتي أحاطت بها، واختارها عاصمة جديدة للدّولة الفاطميّة، بقيت مدينة المهديّة عاصمة الدّولة الفاطميّة حتّى أقام المعزّ لدين الله، الخليفة الفاطميّ الرّابع، مدينة القاهرة سنة 969، ونقل عاصمته إليها.

تولّى القائم بأمر الله الخلافة عام 934م، إلّا أنّه سرعان ما ارتدّت القبائل البربريّة عنه وثارت عليه، فقضى معظم حياته يحارب هؤلاء المتمرِّدين ، كما وشغلت هذه القبائل الخليفة الفاطميّ الثّالث المنصور بالله (946- 953) ولم تُخمد ثورتهم حتّى 947م. ثمّ تولّي خلافة الفاطميين المعز لدين الله (954- 975) سنة 952 حتّى 975 الّذي اشتهر بالورع والزُّهد والصّلاح والتّسامح الدّينيّ فمدّ نفوذه في شمال إفريقيا واحتلّ مصر بقيادة قائده الشّهير جوهر الصّقلّيّ سنة 968 الّتي كانت بيد الإخشيديين وكان المصريّون قد سئموا حكم الإخشيديين بعد كافور، فأوفدوا عنهم وفدًا يمثّل مختلف طبقات الشّعب المصريّ لملاقاة جوهر على أبواب مصر. واستقبل جوهر الوفد وطمأن أعضاءه بأنّ الخليفة المعزّ لدين الله سيعمل على نشر العدل، وبسط الحقّ، وحسم الظُّلم، وقطع العدوان، وإغاثة المظلوم مع الشّفقة والإحسان ويحرس أهل البلد في ليلهم ونهارهم. وأن يهتمّوا باقتصاد مصر ورخاء أهلها ويؤمّنوا المصريين على أموالهم ويحاربوا الرّوم ويؤمّنوا طريق الحجّ إلى مكة.

وقد خلف المعز، العزيز بالله (975- 996) الّذي سار على هدى والده، فحارب البيزنطيين في الشّمال واهتمّ بشؤون دولته في الدّاخل،

وكانت وفاة العزيز بالله في مدينة بلبيس وهو في طريقه لمحاربة البيزنطيين الّذين تقدّموا في شمال سوريا واحتلّوا بعض مناطقها الشّمالّية، فقد ألمّ به المرض وأدركه الموت في تلك المدينة فخلفه ابنه الحاكم بأمر الله (996- 1021).

وكان عمره إحدى عشر سنة وخمسة أشهر. فأوصى العزيز برعايته إلى برجوان الصِّقِّلّي، خادمه والحسن بن عمّار الكُتاميّ، وتنافس برجوان وابن عمّار في أمر الوصاية والحكم، حتّى بلغ الحاكم سنّ السّادسة عشرة من عمره فتولّى الحكم بنفسه وتخلّص من برجوان وابن عمّار.

لم تمضِ ثلاثة أشهر على تسلّمه الخلافة حتّى أخذ يبثّ الدّعاة الّذين بشّروا بقرب قدوم دعوة التّوحيد ودعوا النّاس لانتظار ظهورها العتيد. وأطلِق على هؤلاء الدُّعاة اسم “النُّذُر”. وهم ثلاثة: أبو الخير سلامة بن عبد الوهّاب السّامريّ أبو عبد الله محمد بن وهب القًرشيّ، وأبو إبراهيم إسماعيل بن محمد بن حامد التّميميّ، وكان كبير الدُّعاة حمزة بن علي بن أحمد الزوزني. وكان يُقبَل في الدّعوة كلّ من كان بالغًا، صحيح الجسم والعقل، خاليًا من الرّقّ. ولهذا فقد أعتق الحاكم جميع العبيد.

قبض الحاكم زمام الحكم بحزم وقوة، وقام بتدبير شؤون الدّولة خير قيام، ونظّم له مجلسًا ليلياًّ يحضره أكابر الخاصّة ورجال الدّولة وتُبحث فيه شؤون العامّة، تمكّن الحاكم بأمر الله من إقامة إمبراطوريّة شاسعة الأطراف ضمّت معظم الدّول المجاورة ورغم كون الّذين دخلوا في الدّعوة الدّرزيّة أقلّيّة، فقد حكم هؤلاء في هذه الإمبراطورية الواسعة.

عاش الحاكم حياة تواضع وزهد وتقشُّف وكان من عادته أن يخرج كلّ ليلة للطّواف في القاهرة ثمّ يتركها إلى المقطَّم. وكانت آخر مرّة خرج فيها عام 1021 م ولم يعد. وقد اختلفت الرّوايات في كيفيّة اختفائه، ولكنّه لم يُعثر للحاكم على جثمان وبقي اختفاؤه لغزًا لا يُحّل.

اهتمّ الخلفاء الفاطميّون بأن يجعلوا عاصمتهم موئلًا للعلماء والكُتّاب والشّعراء، ونموذجًا حيًّا لما أرادوه لأنفسهم من العظمة والمهابة. فشادوا القصور والجوامع، وشقّوا الترّع والطّرق وقدّموا للحضارة أجمل الآثار الدّينيّة والفكريّة والماديّة الّتي ما زالت شاهدة على عظمتهم إلى اليوم. لقد كان اهتمام الفاطميّين بالعِلم والتّعليم كبيرًا فوضعوا نصب أعينهم بثّ الرّوح العلميّة في كافّة المؤسّسات الموجودة مثل المساجد والمعاهد والقصور وكلّ أماكن تَجمّع النّاس فيها ولأوّل مرّة في التّاريخ الإسلاميّ ظهرت عمليّة استعمال المساجد الكبرى كمعاهد تعليم.

وقد اهتمّ جميع الخلفاء الفاطميين ووزرائهم ببناء المساجد في أنحاء البلاد لهذه الغاية وأهمّ المساجد الّتي أقاموها مسجد الأزهر الّذي تحوّل إلى جامعة أيّام العزيز وأصبح الأزهر موقوفًا على العِلم ويقدّم لروّاده ما يحتاجونه من وسائل المعيشة والراحة بدون مقابل. وجلس فيه قاضي القضاة يعلمّ أصول المذهب. وهذه أوّل مرّة يقدّم فيها معاش من الدّولة لمن يعلِّم النّاس.

ولم يُحرم النّساء من الاستفادة من الأزهر فقد كان داعي الدّعاة يعقد لهنّ مجالس يقرأ عليهنّ من علوم الفاطميّة.

 لقد جعل الخلفاء الفاطميّون وكذلك وزراؤهم، قصورهم مراكز علميّة لنشر الدّعوة وكانت تشتمل على آلاف الكتب والمراجع. وكان في قصر الخليفة قاعة كبيرة دُعيت (المحوِّل) معدّة للاجتماعات والمناظرات يؤمّها الخاصّة وشيوخ الدّولة وخدم القصر والقادمون إلى مصر وعامّة الناس. وبمرور الزّمن أصبحت هذه القاعات بمثابة مجالس الحكمة الّتي تُقرأ فيها قواعد المذهب الفاطمي من قِبل قاضي القضاة. في أيّام المعز.

وأقام الحاكم سنة 1005 دار الحكمة إلى جانب قصره، الّتي أصبحت أكاديميّة علميّة التحق بها عدد من علماء الدّين واللّغة والنّجوم والطّبّ والحساب. وقد ألحق بدار الحكمة جزء من مكتبة القصر ضمّت 000, 1,600مجلّدًا و(6500) مخطوطة في   جميع علوم العصر. وفُتِحت المكتبة للنّاس للقرّاءة والنّسخ مجّاناً، وأجريت عليها الأرزاق للموّظفين ولشراء الورق والحبر والأقلام وغيرها ممّا يحتاجه القرّاء والنسّاخ بدون مقابل، وتوافدت النّاس إليها على اختلاف طبقاتهم وتباين ثقافاتهم ومهاراتهم العلميّة، بلغت نفقتها ثلاثة وأربعين مليون درهمًا، فغدت تضاهي أكبر مراكز البحوث في عصرنا، حتى نُهبت أيّام المزدهر سنة 1068 على يد الجند وتمّ إحراق الكثير من كتبها بسبب الخلاف بيت علمائها. وفي السّنة التّالية بُنيت لها بناية جديدة بعيدة عن القصر ونُقل ما تبقى إليها وسُمّيت بدار العلم الجديدة وظلّت عامرة حتّى نهاية الدّولة الفاطميّة سنة 1171.

مقالات ذات صلة:

زيارة مقام سيدنا أبو إبراهيم (ع)

تحيا الأمم ويرتفع شأنها وتتعزّز مكانتها بمدى حفاظها على أنبيائها ورسلها عليهم السلام، وعلى دينها ورجال دينها، وأبنائها وبناتها، وعاداتها