شهدت قرية دالية الكرمل مساء يوم الثلاثاء الموافق 12 تشرين ثاني 2019، ظاهرة علمية عقلية ثقافية خلاّقة لم ترَ مثلها القرى الدرزية حتى الآن، حيث تمّ الإعلان عن تأسيس مؤسسة “إفرست” لدعم الفتية الدروز للتألّق والتقدّم والإبحار والتعمّق في فضاء العلم والتكنولوجيا والاختراع. وقد بادر إلى إقامة هذه المؤسسة السيدة آمال ناطور دقسة، وذلك في نطاق مشروع “منديل” الثقافي الذي اشتركت به خلال سنة كاملة وأنهته بالنجاح، والهدف منه، هو أن يقوم كل مشترك بابداع وابتكار مشروع جديد في نطاق معيّن يخدم المجتمع. وتتلخص فكرة المؤسسة في أن تقوم بتبني ذوي موهبة من طلاب العاشر والحادي عشر في القرى الدرزية وتتعهدها خلال سنة، بحيث تقوم بتأهيلها، بأن يفكر كل مشترك أو مشتركة بابتكار مشروع يخدم المجتمع، ويعمل على تحقيقه في هذه السنة، مدعوما من كل النواحي من قِبل مؤسسة “إفرست”، على أن ينهض على رجليه بعد ذلك، ويستمر بدون دعم، كمؤسسة فعّالة ناجحة تقبلها المجتمع وأثبتت جدواها. وقد قامت السيدة آمال باختيار 15 طالبا وطالبة من قريتي دالية الكرمل وعسفيا، يتعلّمون في مدارس مختلفة، وعملت خلال فترة قصيرة على شرح الفكرة لهم وتبنّيها والبدء بتطبيقها وتنفيذها. وتم في حفل الافتتاح استعراض كافة المشتركات والمشتركين، بحيث قام كل واحد وواحدة منهم، بشكل ارتجالي، بعرض فلسفة وبرنامج ومخطط المشروع الذي تبنّاه. وقد ذُهل الجمهور من التألق الشديد، ومن الإبداع الكبير، ومن الشجاعة والجرأة لطلاب وطالبات في الخامسة والسادسة عشرة من أعمارهم، يقفون أمام جمهور من المثقفين والمتخصصين، ويستعرضون أمامه، بلغة عبرية طليقة، وبأسلوب منطقي سليم، رؤياهم وبرامجهم. وقد قوطع جميع المشتركين بالتصفيق الحاد والتهليل والتكبير لهم على هذا العرض العلمي الراقي في أول تجربة ومحاولة لهم في هذا المجال.
افتتح الاحتفال الذي كان من المبرمج أن يجري تحت رعاية فضيلة الرئيس الروحي للطائفة الدرزية الشيخ موفق طريف، الذي اجتمع بالسيدة آمال وسمع منها عن الفكرة وأعجبته، ومنحها المباركة الدينية، داعيا لها بالتوفيق والنجاح، إلا أن فضيلته دعي في آخر لحظة للمشاركة في مؤتمر دولي للتسامح بين الأديان، عقد في إمارة دبي، لكنه سجّل تلفزيونيا مباركة وأرسلها للسيدة أمال، وقامت ببثها على الجمهور وجاء فيها:
الإخوة الأكارم والجمع الكريم مع حفظ الأسماء والألقاب، يسّرنا في هذا اليوم ويسعدنا، أن نباركَ قيامَ هذا المشروع التّربويّ الثقافي، الّذي جاء ليخدمَ الرّسالة الأهمّ في الحياة، وهي تثقيفُ الأجيال النّاشئة، ودعمها للسّير قدمًا نحو التقدّم والحضارة وبناء الإنسان. كلّ هذا إلى جانب ربط الغد المشرق بالأمس العريق، والتمسّك بالعادات والتقاليد المتوارثة، والحفاظ على الصّبغة التّوحيديّة الخاصّة، الّتي هي الهويّة الحقيقيّة لكلّ درزيّ أينما كان.
كلّنا نعلم ما يعاني مجتمعنا وبلادنا في الآونة الأخيرة، من الابتعاد عن قيم التّسامح والحضارة، والتفشّي المقلق لأشكال العنف المختلفة، الّتي صارت تهدّد أمن المجتمع وسلامته، وتضعنا أمامٍ تحدٍّ صعب ومقيت. وإنّنا نرى في مثل هذا المشروع الجديد بادرةَ أملٍ وتوفيق وخير، إذ إنّها تحملُ مسؤوليّةَ التّغيير المنشود، وتسعى إلى التصدّي لمثل هذه الظّواهر الخطرة، عن طريقِ تطوير القيادة في الشّبيبة، وإتاحةِ الفرصةَ أمامهم من أجل التّأثير على محيطهم ومجتمعهم، ووضعِ بصمة إيجابيّة في الأطر الحياتيّة المختلفة. لذلك، نبارك مرّة أخرى قيامَ هذا المشروع السبّاق، ونشكر صاحبةَ المبادرة المعلّمة آمال ناطور دقسة، راجين لها التّوفيق في هذه المبادرة المميّزة. ولكم أيّها المشاركون نقول: ثقوا بأنفسكم دائمًا، ولا تتردّدوا في التّحليق نحو سماء النّجاح والتّميّز، فالمستقبلُ في انتظاركم لكي تصنعوه وتبنوه، والقمم تناديكم لتعتلوا فوقها وتكسروا حدودَ المستحيل.
قبل الختام، لا بدّ أن نبدي اعتذارنا في التغيّب عن حضورنا بينكم، وذلك على إثر تلقّينا لدعوة شخصيّة وصلتنا قبل أيّام من أمير دبيّ، يدعونا فيها للمشاركة في مؤتمر التّسامح العالميّ الذي سيعقد بعد غد الأربعاء، بمشاركة غالبيّة الدّول في العالم، ممّا اضطّرنا إلى السّفر المفاجئ ونقل مباركتنا لكم عبر الأثير. فمرّة أخرى، ندعو الله أن يوفّقكم للخير وذويكُم، وأن يكتب لهذا المشروع النيّر كلّ خير وتقدّم ونجاح، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.”.
ثم ألقت السيدة أمال الكلمة الافتتاحية، شارحة الأوضاع والدوافع والمناهج والرؤى المختلفة لهذا المشروع في كلمة رصينة راقية شاملة جاء فيها: ” أقف أمامكم متأثرة، حيث اشاهد كيف يتحول حلم إلى حقيقة.. والآن أنظر حولي مغمورة بالتأثر، حيث ألمح الحضور الكريم الجالسين امامي، الذين جاءوا خصيصا ليكونوا شركاء في صقل جيل المستقبل للمجتمع الدرزي، فأحيانا لا يمكن لشخص واحد أو صوت واحد أن يصقل حلما، وإنما يتطلب حوار وتعددية أصوات، حتى إذا لم يكن لأحد منا كل الأجوبة، لكن من الممكن أن يكون لنا كمجموعة، أمل أكبر لإعطاء أجوبة للتساؤلات. أشكر وأحيي الرئيس الروحي للطائفة الدرزية الشيخ موفق طريف، وأشكر رئيس مؤسسة الشهيد الدرزي عضو الكنيست السابق أمل نصر الدين، واشكر مدراء ومديرات المدارس المحترمين، وأشكر مدير مركز التراث الدرزي السيد محمود شنان، وأشكر رئيس منظمة الجندي الدرزي قفطان حلبي، وأشكر زملائي وزميلاتي المحترمين من مركز منديل في الشمال، وأشكر شركائي بالفكرة الذين ساعدوني في التنفيذ: الجنرال حسون حسون، أخي الغالي توحيد، د. عنان وهبة، السيد مسعد قدور، الأستاذ عزام حاتم حلبي، مها فخر الدين وكثيرين وكثيرات غيرهم، أشكر العائلة الغالية التي تدعمني دعما مطلقا والأصدقاء الأعزاء وطبعا اشكر نخبة “إفرست” المميزة، الصفوة المنتخبة من الشبيبة الدرزية، الذين أرى بهم جواهر التاج التي تلمع وتزودنا بالأمل، وأشكر أهاليهم، لأن للنجاح آباء. إن حلم مركز “إفرست” أن يكون مركزا رائدا متجددا يؤهّل الشبيبة الدرزية لتتبوّا منصبها كزعماء المستقبل الذين ينتقلون بالمجتمع بطرق نوعية مميزة ويبذلون جهودا كبيرة للوصول لتحقيق مجتمع أفضل .

إن ما يميز البرنامج القيادي لمركز “إفرست” هو دعم الشبيبة الدرزية لتطور فلسفة حياة ونظرة للعالم، ولصقل مثل عليا اجتماعية والنظر إلى المجتمع الدرزي كمن يرغب أن يتقدم ويتطور استنادا إلى التاريخ العريق وبفضل هذا البرنامج سنقوم بمعالجة الصراع بين المحافظة على التراث الدرزي والهوية المميزة وبين الضغط البيئي الناتج عن الثقافة المعاصرة. سوف يقدم البرنامج الآليات لمبادرات اجتماعية لممارسة الحداثة، لبحث جذور التراث الدرزي، وفحص قضايا الهوية الشخصية والجماهيرية، ولتعميق المعرفة وتوسيع المفاهيم والمدارك. تخطيطنا تحقيق البرنامج خلال سنة مع إمكانية التمديد حتى إنهاء الصف الثاني عشر. ستكون هذه السنة بمثابة مرحلة تأهيلية للحياة تقوم بإعداد المشتركين ليكونوا المبادرين للتغيير في المجتمع وتطور فيهم أن يكونوا أكثر فعالية اجتماعيا وجماهيريا. ولماذا اخترنا الفتيان أو الجيل الصاعد؟ إن الفتية هي مورد إذا استطعنا أن نثبت جودته، نؤمّن مفاتيح المستقبل، وكما قال سيدنا أفلاطون: إن سنوات الفتوة هي مصيرية لخلق زعماء المستقبل.
إن المتطلبات الشخصية والحاجة لتحقيق الذات هي قبل كل شيء. القيادة هي كسر الأغلال والخروج إلى المتسع الاجتماعي الجماهيري من مثل عليا ذاتية إلى مُثل عليا عالمية ومنها الانتباه إلى الآخر وتفهّمه، فالفتية قابلون للتغيير وهم يملكون الشجاعة للسير ضد التيار ولتبني قوالب تفكير حديثة، وعلينا أن نمنحهم التربية الأصيلة المطلوبة لتقوم بهذا التغيير. وقد وجدنا أن الفتية لدينا يملكون قدرات هائلة للتغيير، وعلينا فقط أن نقوم بتطبيقها وأن نساعدهم على تحقيق ذواتهم. من المخطط أن نجري لقاءات جماعية يتعلم فيها الفتية نماذج اجتماعية ليكتسبوا خبرة، يجتمعون بشخصيات رائدة مميزة، يشاركون في لقاءات متعددة الثقافة تجعلهم يعمّقون معرفتهم مع المجتمع الإسرائيلي على كل أشكاله، يشتركون بدورات وورشا عمل، ويمارسون العملية القيادية بواسطة المبادرة إلى إقامة مشاريع اجتماعية. سيرافق هؤلاء الفتية طوال السنة مستشارون وأشخاص ذوو خبرة يساعدونهم على التغلب على المواجهات مع واقع معقّد متعدد الأوجه. يتعلمون كيف يتطورون ويتألقون.
نبدأ بالمجموعة الأولى من دالية الكرمل وعسفيا، لكن أملنا أن نصل إلى كافة القرى الدرزية. قال أرسطو: “هنالك وسيلة واحدة لتتجنب التعرض للنقد، ألاّ تفعل شيئا، ألا تقول شيئا وأن تصبح لا شيء”. أتوجه إليكم ان تساعدوا، ان تدعموا وأن تكونوا جزءا من المبادرة لأنه هناك مكان للجميع…”.

وقامت مندوبة مؤسسة منديل التي ترعى المشروع، بإلقاء كلمة قوية مشجعة أثنت فيها على شخصية السيدة أمال وعلى قدراتها وعلى حسن اختيارها وتدريبها للمشاركين، وصرحت أن المؤسسة تدعم الطائفة الدرزية المشهورة بوجود مواهب وقدرات عقلانية وعلمية كبيرة فيها،وأنها واثقة أن المؤسسة سوف تؤدي إلى تحويل كبير في المجتمع الدرزي، يصبو إلى التألق العلمي، وفي نفس الوقت يترك جذوره في التراث الشعبي والديني والاجتماعي العريق للطائفة الدرزية.”. وفي ختام الاحتفال ألقى رئيس المجلس المحلي، كلمة بهذه المناسبة. وكانت إدارة الاحتفال قد تمّت بواسطة إحدى الطالبات المبدعات، هي الطالبة حنان حلبي التي سحرت الجمهور بفصاحتها وشجاعتها ومهنيتها وثقتها بنفسها، وعرضت فقرات البرنامج الذي استغرق حوالي ثلاث ساعات، دون أن تكون لحظة ملل واحدة، حيث كان البرنامج بفضلها وبفضل الإعداد السليم، شيّقا ممتعا وُمعجِبا، فيه روح جديدة، وفيه فخر وزهو واعتزاز لأهالي الطلاب الذين يتعرّفون لأول مرة على القدرات الهائلة التي يتمتع فيها ابناؤهم وبناتهم، مما ينبّئ أن لهم مستقبلا زاهرا في مجالات الحياة المختلفة، مدعوما بأرقى التقنيات الحديثة.